القادة العظام من الملوك والخلفاء خُلدت أسماؤهم بمشاريع جبارة ظلت تطلق عليهم لمئات السنين، خصوصاً المشاريع التي يتعدى نفعها لأكبر عدد من المستخدمين وخاصة في العالم الإسلامي المترامي الأطراف، فها هي بغداد حاضرة الخلافة العباسية التي اختطها الخليفة أبو جعفر المنصور تحتفظ بفكرته الهندسية في اختيار هندستها منذ عام 140 للهجرة النبوية، وها هو (درب زبيدة) الذي يمتد من العراق إلى مكة المكرمة باقيًا بمحطاته وبركه التي تسقي البادية بمياهها حتى وفتنا الحاضر بعد أن اندثر الطريق بعد اختراع السيارات وأثره ما زال ممتدًا بعد ذلك!! وهو طريق الحج والعمرة أو التجارة الذي يخترق صحاري نجد وكثبان رمالها وسهولها ووديانها بل وحتى حراتها، هذا الطريق الذي يعرفه كل سكان نجد حالياً وكان قبل سنين قليلة وحتى بعد ظهور السيارات. في إحدى المرات كنت أسير في صحارينا الممتدة ما بين القصيم والمدينة المنورة ومكة المكرمة في صيف قائظ شديد الحرارة لا يُرى فيه إلا السراب والشجيرات تتراقص تحت وهج الشمس الحارق ولا أثر للحياة في هذه المفاوز الشاسعة إلا زواحف تلوذ في ظلال الشجيرات, رمال وراء رمال وبيد دونها بيد، فجأة لاح لي في وسط السراب ثلاثة صهاريج وتعجبت كيف توجد في هذه الصحراء وعندما اقتربت منها رايتها تملأ خزاناتها من بركة أثرية واسعة هي إحدى برك زبيدة.
بعد أكثر من 1200 سنة من إنشاء طريق زبيدة لخدمة الحجاج, بدأت حكومة المملكة العربية السعودية - بإنشاء طريق سريع ومسفلت لمرور السيارات يسير محاذيًا لطريق زبيدة ولكنه يبدأ من منتصف مسافة هذا الطريق ولا يمتد إلى شمال شرق المملكة, إنه طريق (مكة- القصيم) السريع الذي بدأ تنفيذه, وهي بداية موفقة لهذا المشروع (الإستراتيجي) الذي لا يختص بمنطقة دون غيرها وإنما يمر بأربع مناطق من المملكة، وهي مكة المكرمة, المدينة المنورة, القصيم, الرياض. ومن مميزات هذا الطريق أنه يمر بأكبر امتداد قروي في المملكة كان بعيدًا عن الطرق وفي صحراء شاسعة وهي المثلث الواقع بين كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة والقصيم, وحتى يؤدي هذا الطريق مهمته الأساسية وهي خدمة حجاج بيت الله الحرام وزواره فلابد من إكمال ازدواجه (شمالاً بعد تقاطعه مع طريق الرياض -المدينة المنورة) ليصل إلى حفر الباطن ومنفذ الرقعي الحدودي مع الكويت، فهذه الوصلة هي عنق الزجاجة الذي يؤدي إلى الطريق السريع الذي بدأ إنشاؤه إلى مكة المكرمة, وكذلك طريق (الرياض-المدينة) السريع. وباكتمال هذا الطريق سيكون لدينا طريق دولي (تاريخي) سيكون علامة فارقة في تاريخ الإنجازات في عهد خادم الحرمين الشريفين وفي تاريخ المملكة اللامع وخدمتها لبيت الله الحرام وقاصديه, هذا الامتداد هو إكمال لهذا الإنجاز التاريخي وجزء لا يتجزأ منه.
من يقصد مكة المكرمة قادمًا من شمال شرق المملكة أو الكويت أو العراق فاقصر الطرق التي يسلكها هي:
1- عبر منفذ الرقعي حتى الوصول لحفر الباطن عبر طريق مفرد بطول 100كم, ثم الاتجاه إلى الجنوب مباشرة حتى الوصول إلى المجمعة بطول 375 كم, ثم الاتجاه عبر طريق مفرد وخطر ومتعرج مارا بكل من شقراء والدوادمي بطول 475كم حتى الوصول لطريق الرياض الطائف حتى مكة المكرمة عبر طريق السيل بطول 322 أي بطول أكثر من 1472كم وبزمن رحلة يزيد عن 15 ساعة.
2- المسار السابق نفسه ولكن الاتجاه عبر الزلفي إلى غرب القصيم بطول 340كم ومن ثم الاتجاه إلى مكة عبر المدينة المنورة، وعبر طريق (القصيم- عفيف- الطائف) بطول 750كم، أي بطول يزيد عن 1500 كم وبزمن رحلة يزيد عن 15 ساعة لأيضاً.
أما المسار المقترح (درب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز) وذلك بداية من منفذ الرقعي حتى يصل إلى بداية طريق (مكة- القصيم) أي نقطة التقاطع مع طريق (الرياض- المدينة المنورة)، وهي مركز السيح والحجازية والوصلة المقترحة للطريق بطول نحو 550كم (من منفذ الرقعي حتى غرب منطقة القصيم (ما بين النبهانية ورياض الخبراء)، وإذا أضيفت إلى طريق (مكة- القصيم) الذي بدأ تنفيذه فسيكون لدينا طريق (اوتوستراد دولي) يخترق المملكة من الشمال الشرقي حتى مكة المكرمة بطول يزيد قليلاً عن 1000كم، وسيكون طريقًا (تاريخيًا) وإنجازًا فريدًا سيكون خدمة جليلة للحجاج والمعتمرين يريحهم من عناء التنقل عبر طرق مفردة ومزعجة برحلة شاقة وبمخاطر محدقة تستغرق أكثر من 15 ساعة وبطرق ذات خدمات (متخلفة) إلى طريق سريع وحديث وبزمن رحلة لا يزيد عن 50% من زمن الرحلة السابق على أن يراعى في إنجاز هذا (الدرب) ما يلي:
- أن يتم التعامل معه بشكل مغاير للتعامل العادي مع الطرق السريعة والناقلة للحركة، فهو طريق غير عادي يؤدي إلى مكان مقدس، وأن يصمم بطريقة إسلامية تعكس عمقه التاريخي والديني، وأن يتم معاملته وكأنه طريق محيط بالمسجد الحرام (أي يتم تمويله بشكل استثنائي ضمن مشاريع الحرمين الشريفين)، فهو طريق يخدم قاصدي مكة المكرمة والحرمين الشريفين وليس أهم ولا أولى عند خادم الحرمين الشريفين من خدمتهما, وهذا لا شك يضمن سرعة تنفيذه.
- أن يتم ضمن المشروع نفسه بناء نزل حديثة واستراحات للحجاج ذات طراز إسلامي تاريخي وأن يكون أحد هذه الاستراحات (منتصف الطريق) استراحة كبيرة تشمل جميع المرافق والخدمات (فندق 5 نجوم ذو طراز إسلامي- مسجد كبير- مطعم حديث يقدم مختلف أنواع الوجبات الساخنة- دورات مياه- مركز طبي- محطة للوقود وخدمة السيارات)، وبعد بنائها يتم تشغيلها عن طريق شركة غير ربحية, حيث إن التجربة المريرة لاستراحات الطرق على الطرق المؤدية إلى مكة قد عكست صورة سلبية عن بلادنا وتم بناؤها بطريقة رديئة متخلفة، ومع ذلك لا يوجد بها الخدمات رديئة، أما إذا تم بناؤها ضمن هذا المشروع وانفق عليها يضعة ملايين من الريالات وقدمت الخدمات للحجاج بأسعار رمزية قليلة فسيكون ذلك خدمة جليلة لقاصدي بيت الله الحرام وقدمت صورة ناصعة لهذه البلاد التي أخذت على عاتقها خدمة بيت الله الحرام وقاصديه، ويمكن تحويل هذا الطريق إلى مشروع استثماري رائد ببنائه بطراز إسلامي وتأسيس استراحات وفنادق عليه بمشروع يموله (صندوق الاستثمارات العامة). وأجزم أنه سيسترد كامل تكاليفه خلال سنوات إذا تم بناء الاستراحات والفنادق والمطاعم عليه وتم تشغيلها بإدارة متميزة.
ووقد تم تنفيذ جزء كبير من هذا الدرب داخل منطقة القصيم وتبقى الجزء الأهم وهو الواصل إلى مكة المكرمة مارًا بسلسلة جبال شرق مكة المكرمة. ولم يتم اعتماد هذا الجزء وطرحه في منافسة عامة وهو الجزء الأهم من الطريق والأصعب في التنفيذ حيث تعترضه الجبال والوديان التي لن تقف عائقًا أمام العزم والإصرار على خدمة حجاج بيت الله الحرام.
أثق بأن هذا المقترح سيجد الاهتمام من سمو ولي العهد الهمام الأمير محمد بن سلمان (رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية) صاحب الرؤية الوطنية لتنمية المملكة وجعلها محورًا للعالم الإسلامي وزيادة أعداد الحجاج والمعتمرين وتسهيل خدمتهم. وهذا الطريق سيسهم في تقديم خدمة كبرى للحجاج وقاصدي بيت الله الحرام وفي تنمية وسط وشمال المملكة ويمر في 7 مناطق من المملكة، ولا شك أن هذا الطريق هو من أهم الطرق التي تدخل ضمن هذا الاهتمام جغرافيًا داخل منطقة مكة المكرمة ووطنيًا ودينيًا بكامله ليدخل ضمن مشاريع الحرمين الشريفين, كذلك سمو أمير منطقة القصيم الأمير الدكتور فيصل بن مشعل الذي تابع مشروع الطريق منذ أن كان فكره حتى بدأ تنفيذه بعزم لا يلين ومتابعة ميدانية مستمرة, وأثق باهتمام معالي وزير النقل المهندس نبيل العمودي تحقيقًا لرؤية المملكة 2030 هذه الرؤية التي يلوح خلفها اقتصاد مزدهر يستغل كل إمكانات المملكة ومواردها ويعطي صورة رائعة لبلادنا أمام القاصدين لقبلة المسلمين مكة المكرمة.