د. عبدالحق عزوزي
حظيت مؤخرًا بشرف الحضور في احتفالية تكريم بعض النساء المغربيات اللواتي برزن في مجالات عدة بالعاصمة العلمية فاس في حفل بهيج نظمته إحدى الجمعيات النشيطة. وشمل التكريم الذي أقيم احتفاء باليوم العالمي للمرأة، نساء من مدن مغربية متنوعة لمعن في القضاء والعمل الأهلي، وتسيير المؤسسات والطب وغير ذلك.. وأريد أن أتوفق في مقالتي هاته عند نقاط أجملها فيما يلي:
- مؤرخو السيرة النبوية، يذكرون أن بعض نساء رسول الله صلى عليه وسلم، ولعلها أم سلمة، حسب رواية النسائي وأحمد، قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟» وكان من التصور أن يجيبها صلى الله عليه وسلم بأن الخطاب القرآني كله، ما لم يخصص، موجه إلى الرجال والنساء على السواء، غير أن الجواب عن السيدة السائلة جاء من السماء، في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}... فهاته الآية حكم بالمساواة في التأهيل الإلهي الروحاني للرجال والنساء، مساواة في التعبد، أعمالا وأحوالا، وفي ثمرة التعبد، وهي المغفرة والأجر العظيم، وبهذا الحكم لا تحتاج نساء الإسلام إلى من يتكلف الدفاع عنهن في هذا الباب...
- نبغت في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية الآلاف من العالمات المبرَّزات والمتفوقات فى أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية والإسلامية، وقد ترجم الحافظ بن حجر في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة»، لثلاث وأربعين وخمسمائة وألف امرأة، منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات. وذكر كل من الإمام النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات»، والخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»، والسخاوي في كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، وعمر رضا كحالة في «معجم أعلام النساء»، وغيرهم ممن صنف كتب الطبقات والتراجم، ذكروا تراجم مستفيضة لنساء عالمات في الحديث والفقه والتفسير وكذلك لأديبات وشاعرات. ولقد تفوقت المرأة المسلمة على الرجل في جوانب كثيرة في علوم الحضارة الإسلامية، فنجحت كحاكمة وكقاضية وكمحاربة وكقائدة الجيوش وكمحتسبة وكفقيهة.
- في صفحات تاريخ الحضارة الإسلامية لنا شواهد لنساء فضليات مازالت أعمالهن تشهد لهن بنبلهن وبعد نظرهن، ولعل أفضل مثال ناطق هو جامعة القرويين بمدينة فاس بالمغرب وهي أول جامعة أنشئت في تاريخ العالم، وأقدمها على الإطلاق وبنيت الجامعة كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين الذي قامت ببنائه السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 245 هـ/ 859م، وهذا المشروع ظل إلى اليوم شامخا ناطقا يرفع من شأن المرأة المسلمة إلى يوم الدين... وحسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية هإن هذه الجامعة هي أقدم واحدة في العالم والتي لازالت تُدرس حتى اليوم. وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين: فقد تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050 ميلادية في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي. ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق. ثم جامعة باريس، ثم تأسست جامعة بادوا سنة1222 م، ثم جامعة أكسفورد عام1249 م، ثم جامعة كمبدرج عام 1284 وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة1243م. أما جامعة القرويين فهي أقدم جامعة ظهرت قبل أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنوات.
- الذي يوقفني في مثل هاته المناسبات، وكما أقوله دائما في تدخلاتي، هو أنه عندما نقوم بتكريم شخصيات تبرز في أنشطتها خدمة للمجتمع، وتعطي الغالي والنفيس لإسعاد شرائح كبيرة من المجتمع، فإننا نكرم من يبنون بحق الدولة؛ ودائما ما أنصح طلبتي في الجامعات بقراءة ما كتبه ألكسي دو توكفيل عن أمريكا بعد رحلته إليها في نيسان 1831 واَذار 1832 عندما كان وزيرا لخارجية فرنسا، وكتاباته من أقيم الكتابات وصفا لنوعية العلاقات التي تسود المؤسسات الأمريكية، ونشأتها وكيفية عملها والعوامل الداخلية والخارجية التي تقويها، ونظر إليها من زاوية السياسي الكبير وعالم الاجتماع المحنك، واكتشف من خلال تحليله النواة المحركة للتنمية والسياسة في أمريكا، فوجدها في منظمات المجتمع المدني التي تسمح بالفبركة والتأثير في مضمون القرارات الجماعية الملزمة للجميع والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل وحتى الدينية...