سهام القحطاني
بدأت النخبوية الثقافية في التاريخ العربي من خلال «التمييز اللغوي» عبر تحول «لهجة قريش» إلى نموذج للكمال اللغوي عند العرب الذي كان يدفع كل شاعر يريد أن يصل للعرب وينال الألقاب إلى نظم شعره بلهجة قريش؛ كونها نموذج الكمال، ومعيار لوحدة الفهم المشترك؛ وبذلك تحولت تلك اللهجة من مجرد توصيف نخبوي إلى «إجرائية» ومعيار للقيمة وقاعدة للتطبيق، يعرف من خلاله حدود الحسن من الرديء. وهي إجرائية حولت بقية اللهجات العربية إلى لهجات درجة ثانية في ظل الاستعمار الثقافي للهجة القرشية.
وهيمنة «اللهجة القرشية» على المنجز الثقافي للعرب «الشعر» مكّن قريش من «قيادة السلطة الثقافية» للعرب، مع أن قريش لم يُعرف عنها أي تفوق ثقافي سواء على مستوى الشعر أو بقية الأشكال الثقافية، ولم يظهر من أبنائها من تمييز بنبوغ شعري.
كما أن تلك النخبوية الثقافية مكّنت قريش من قيادة السلطة السياسية للعرب، وهو ما يعني أن التفوق الثقافي هو دائمًا المانح للسلطة السياسية والثقافية.
ولعل «نخبوية اللهجة القرشية» التي أصبحت فيما بعد «لغة النص المقدس» تعود إلى المكانة الدينية «لمكة» عند العرب لوجود «البيت الحرام» وملتقى العرب في المواسم الدينية، وهذه المكانة هي التي أسهمت في التحول «النخبوي للهجة القرشية» وهيمنتها على المنجز الشعري للعرب؛ لتصبح اللهجة الرسمية للعرب التي يفهمها كل عربي بفضل الشعر. كما أننا لا ننكر أن تلك النخبوية اللغوية للهجة القرشية استطاعت أن تشكل وحدة لغوية وخطابًا مشتركًا، يجتمع تحت مظلتهما الفهم العربي في قنواته المختلفة: الفكر والمضمون والأسلوب؛ لذا أُنزل القرآن الكريم «بلهجة قريش» كونها اللهجة التي يفهمها العرب باختلاف قبائلهم. وهذه الوحدة الفكرية لفظًا وأسلوبًا للنص المقدس لم ترسخ «للنخبوية اللغوية التي سادت عند العرب» بل راعت الحرية اللغوية على مستوى لهجات العرب عندما أُنزل القرآن الكريم «بسبعة أحرف»؛ ليتناسب مع الطبيعة اللغوية للقبائل العربية نطقًا وفهمًا، وهي حرية لغوية مفندة للنخبوية اللغوية التي كانت سائدة قبل الإسلام، وأوضحها رسولنا الكريم من خلال قوله الحق: «إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف كلها شافٍ وكافٍ فاقرؤوا كما عُلمتم».
لكن ما لبثت تلك النخبوية اللغوية بالظهور مرة أخرى عندما «جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه القرآن الكريم على لهجة قريش؛ باعتباره قرشيًّا، ولغة الحاكم هي دائمًا التي تتصف بالسيادة والنخبوية».
وتوحيد لهجة القرآن الكريم وفق لهجة قريش قاد فيما بعد إلى صراع لغوي بين علماء اللغة والتفسير، وأظهر لنا مصطلحات الشذوذ والغريب والزوائد في القرآن الكريم، بل أثر فيما بعد على حرية الفتوى في المدونة الفقهية.
وارتباط اللغة بالنص المقدسة فهمًا وتطبيقًا حولها إلى «مقدس موازٍ» لقيمة النص.
وأصبح أي تجديد لغوي يعني «تشكيكًا في كمال النص المقدس». وهذا المعتقد قاد فيما بعد إلى الصراع الثقافي بين الشعراء وشيوخ اللغة والبلاغة والنقاد الذين عدوا أنفسهم حراسًا لحماية تلك الثكنة اللغوية؛ ليضيفوا إلى نخبوية اللغة قدسيتها.
وهي حراسة قصدوا من خلالها إحاطة معتقداتهم بالنخبوية والسلطة الفاعلة للحذف والإضافة. وهنا ظهر العديد من التوصيفات والمعايير التي سعى علماء اللغة والبلاغة من خلالها إلى الهيمنة على الشعراء، منها التشكيك في الأصالة اللغوية للشعراء. وهذا التشكيك رسخ للتمييز العنصري بين الشعراء. التشكيك في حقيقة المعتقد الديني للشاعر المجدد والتشهير به.
وهو اضطهاد ثقافي كانت نتيجته ظهور وتوسع الشعوبية، ثم تصفية بعض الشعراء الذين تحدوا سلطة علماء اللغة والبلاغة.
أما الطرف الثاني في ذلك الصراع فكان الشعراء الذين حاولوا تجاوز تلك النخبوية، سواء اللغوية أو السلطوية لعلماء اللغة، لفتح أبواب التجديد اللغوي؛ باعتبار أن اللغة جزء من التجربة الإنسانية الصاعدة للرقي والتطور.
وهذا التجاوز - بلا شك - حاصل اعتقاد الكثير من الشعراء أن قائل الشعر فوق سلطة اللغة وقواعدها وإملاءاتها ومن يمثلها، وهم بتلك الفوقية يمنحون أنفسهم نخبوية تحصنهم من قيود سلطة ومعاييرها؛ ولهذا شاعت المقولة الداعمة لمبدأ تلك النخبوية «يُسمح للشاعر بما لا يُسمح لغيره».
إن «قدسية اللغة» باعتبارها الرابط الفهمي والإجرائي للنص المقدس ولّدت وهمًا نخبويًّا آخر إضافة إلى علماء اللغة والبلاغة والشعراء، قاد إلى صراع ثقافي، هو «النخبوية الفقهية».
تكونت النخبوية الفقهية من مجموع من «رجال الدين»، وكان لديهم اعتقاد - ولا يزال - أنهم «ورثة الأنبياء». هذا الاعتقاد بالتمثيل الاصطفائي هو الذي أسس وهم النخبوية لديهم، باعتبار «تمكينهم» الديني هو التمكين الذي يقوم على الفهم المطلق للدين مقابل جهل الآخرين.
وبما أنهم يملكون مطلق الفهم فهم القادرون على «صناعة الدستور الديني» للآخرين، والوصاية على تفكيرهم. وهذا المسار الفكري للفقهاء ولّد الصراعات الثقافية متعددة الأطراف بين الفقهاء والشعراء ورواد علم الكلام و الفلاسفة، وهو مسار كان يسعى - ولا يزال - إلى «ديننة الثقافة»؛ لتظل تحت وصاية الفقهاء للتأكيد على أحادية نخبويتهم، بل ولّد الصراع «الفقهي الفقهي».
يتميز التشريع الإسلامي بسعة التأويل والتعددية الإجرائية للتطبيق؛ لأنه تشريع صالح لكل زمان ومكان. وهذه المرونة التأويلية والتطبيقية هي التي «خلقت الديمقراطية الفقهية» التي كان حاصلها تعدد «المذاهب الفقهية».
إلا أن سيطرة «وهم النخبة على فكر الفقهاء» حولت الديمقراطية الفقهية تلك التي تقوم على المبدأ النبوي «اختلاف أمتي رحمة» إلى صراع فقهي أساسه من يملك «الرأي الحق المطابق لأصل التشريع»، وهو أساس قاد إلى غير الأصل «الأحادية»؛ لأن الأصل في التشريع الاختلاف والتعددية، ومن ثم دخول المذاهب الفقهية في صراع على «الأصح للأصل»؛ لتستقر تلك النخبوية الفقهية في «التمثيل الحنبلي» الذي اعتقد أصحابه أنه الممثل الرسمي الوحيد لأهل السنة والجماعة، وما عداه من مذاهب خارج دائرة ذلك التوصيف. وتلك الأحادية التمثيلية ربطت بين النخبوية الفقهية الحنبلية و»الفرقة الناجية».
وهو صراع أظن أن الغاية منه ليست مصلحة الصحة الشرعية «للسلوك التطبيقي» بل «فرض الهيمنة الأحادية» لمذهب فقهي واحد، يتحوّل إلى دين موازٍ، يتحكم في الناس ويهيمن على فكرهم، كما حدث مع «الحنبلية» التي أورثت تابعها الرجعية والتخلف. والنخبوية الفقهية لم تكتفِ بالصراع الفقهي الفقهي، بل قادت الصراع الفقهي الفكري كما حدث مع المعتزلة التي كفرت أصحابها، والصراع الفقهي المذهبي كما حدث مع الشيعة التي أيضا كفرت أصحابها؛ لتظل هي «النخبة الناجية».