د.عبد الرحمن الحبيب
الديمقراطية المباشرة هي شكل من أشكال الديمقراطية يتم فيها اتخاذ القرارات في القضايا الوطنية الرئيسية عبر التصويت المباشر من المواطنين وليس عبر ممثليهم من النواب المنتخبين كما في الديمقراطية التمثيلية التي تعد الديمقراطيات الليبرالية الحديثة نموذجها الأهم.
ومع كثرة الاستفتاءات العامة في أوربا يخشى البعض من أن توسيع الديمقراطية المباشرة قد يهدِّد الحريات والحقوق باسم الأغلبية، فضلاً عن الرجوع لرأي أناس غير ملمين وغير مدركين لقضايا مصيرية. يُذكر أن جون ستيوارت ميل، الفيلسوف الليبرالي الأبرز بالقرن التاسع عشر، لم يكن يثق بالجمهور الواسع لحماية الحرية الفردية، وكان مقتنعاً بنظام انتخابي يُعطي التصويت فقط لعُشر البالغين الإنجليز. لكن بمنتصف القرن العشرين، أصبحت الدول الغربية ليبرالية وديمقراطية يُصوت فيه جميع البالغين.
الاستفتاءات العامة الأخيرة أظهرت فكرة عدم الانسجام بين الديمقراطية والليبرالية، فمثلاً صوت جمهور كتالونيا للانفصال عن إسبانيا فحدثت مجابهة مع الديمقراطية الليبرالية في إسبانيا ثم مع دول الاتحاد الأوربي. ومثال آخر تصميم رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون على الاستفتاء العام على عضوية الاتحاد الأوروبي لأنه كان متأكداً بأن النتيجة ستكون لصالح بقاء بلاده ضمن الاتحاد باعتباره الرأي الرشيد، لكن حصل العكس فخاب أمله وقدّم استقالته.
إنما أكبر مظاهر عدم الانسجام بين الديمقراطية والليبرالية هو ما ينتشر حالياً في أوربا الشرقية: ديمقراطية غير ليبرالية، أو كما يسميها ياسشا مونيك «ديمقراطية بلا حقوق» في كتابه «الشعب مقابل الديمقراطية»، الذي تتبع فيه صعود الأحزاب الشعوبية الراغبة بالاستيلاء على آليات الأغلبية، وأهمها التصويت، لتعزيز رؤية معادية للحقوق الفردية، ولسيادة القانون، ولاحترام الأقليات مثلما يجري الآن في هنجاريا وبولندا حسب مونيك. هنا، تموت الديمقراطية بالإهمال البطيء لقيمها وللمؤسسات التي تدعمها بينما يتقدّم اليمين القومي المتطرف عبر بوابة الديمقراطية، وفقاً لكتاب «كيف تموت الديمقراطية» لستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات.
إذا كان هذا رأي بعض النخب الغربية فما رأي عموم الناس؟ أجرى مركز أبحاث بيو استطلاعاً للرأي في عشر دول من الاتحاد الأوروبي، وكانت النتيجة أن 50 % من المستطلعين قالوا إنهم غير راضين على الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية في بلادهم، مقابل 48 % راضون. إنما الصورة تختلف بشكل ملحوظ من بلد لآخر: فالأغلبية في السويد (79 %) وهولندا (77 %) وألمانيا (73 %) مسرورون بنظامهم الديمقراطي الحالي، بينما يتحول الرضا إلى أقلية في إسبانيا (25 %) واليونان (21 %).
ما هو شكل الديمقراطية التي يريدها الأوربيون؟ هناك متوسط نسبته 80 % من الذين شملهم الاستطلاع لديهم رؤية إيجابية للديمقراطية التمثيلية، لكن النسبة تتفاوت كثيراً بين البلدان الأوربية؛ إذ يقول 54 % من السويديين أن نظاماً يقرّر فيه الممثّلون المنتخبون ما يصبح قانوناً هو طريقة جيدة جداً لتنظيم بلادهم، لكن 20 % فقط من البولنديين متحمسون بنفس القدر لنظامهم البرلماني.
أما الديمقراطية المباشرة فيؤيّدها أغلبية الأوربيين بمعدل 70 % يرون أن الاستفتاءات العامة وسيلة جيدة لتنظيم بلدهم، حيث يؤيّدها ما بين 55 % بهولندا وبريطانيا إلى 75 % في: إسبانيا، ألمانيا، فرنسا و80 % باليونان. بالنسبة لأكثر الفئات تأييداً للديمقراطية المباشرة كانت الأحزاب الشعبوية مقارنة مع الأحزاب الأخرى، والأشخاص الأقل تعليماً (تعليم ثانوي أو أقل) مقارنة مع الأعلى تعليماً، وكذلك البالغون الأصغر سِنّاً (أعمارهم بين 18 و29 سنة) مقارنة مع الأكبر سِنّاً.
في خاتمة هذه الدراسة الاستطلاعية كتب محررها الباحث بروسي ستوكس: قبل أن يوافق الزعماء الأوربيون على كثرة الاستفتاءات، فقد يرغبون أن يسألوا ديفيد كاميرون عن العواقب غير المتوقّعة المترتبة على تصويت الجمهور على عضوية الاتحاد الأوربي. الواقع أنه إذا أصبحت رغبة الأوربيين بتحقيق المزيد من الديمقراطية المباشرة حقيقة واقعة، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي قد لا يكون إلا عَرَضاً لمستقبل غامض.
المستقبل سيكون أكثر غموضاً مع التطور التكنولوجي الهائل، مما دعا الباحث جيمس تروب للتساؤل: هل تتغلب التكنولوجيا على حياتنا لدرجة أن الديمقراطية ستفسح المجال لشيء لا نملك اسمه الآن؟ أو ربما سيتم الاستيلاء على آليات الديمقراطية عبر الإنترنت وتتحكم بنا الآلات وتعاملنا كالرقميات، مع حزمة الحريات الفردية المصاحبة لها، حسب ديفيد رونشيمان في كتابه «كيف تنتهي الديمقراطية».
إذا كانت الديمقراطية المباشرة تهدِّد الديمقراطية التمثيلية والليبرالية، فالإنترنت يطرح ديمقراطية أخرى، وهي الديمقراطية التشاركية التي أصبحت أهم عناصر الديمقراطية أكثر من الاستفتاءات أو الانتخابات التي تحصل كل بضع سنوات، لأنها تسهل معرفة يومية بالتشريعات والقرارات وإجراءات تنفيذها، وتمنح الناس القدرة على المساءلة والاقتراح وربما إصدار التشريعات. فإذا كان التساؤل هل الديمقراطية المباشرة جيدة أم سيئة، فالتساؤل الأهم حول تأثير التطور التكنولوجي الهائل في الديمقراطية..
في أوائل تسعينات القرن المنصرم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أطلق المفكر الأمريكي فوكوياما مقولته الشهيرة «نهاية التاريخ» بانتصار الديمقراطية الليبرالية وأنها التوجه الوحيد للعالم، وبعدها بنحو عشر سنوات تراجع عن إعلانه لأن العالم لا يزال متعدد الخيارات. أما الآن فقد ظهر طرح باحتمال نهاية الديمقراطية الليبرالية نفسها.. المستقبل يكتنفه الغموض أكثر من أي وقت مضى...