عبدالعزيز السماري
فلسفة السياسة تختلف من ثقافة إلى أخرى، وتعتمد بشكل كبير على الجذور الثقافية في المجتمع، فالبيئة العربية كانت وما زالت تحكمها قوى متعددة ومتنافرة، وعندما يبدأ مشروع لتوحيدها تُستخدم القوة لتوحيد مختلف القوى، لكن ليس لدرجة إلغائها وصهرها في قالب اجتماعي سياسي تحت مظلة القانون، ولذلك تبقى الأمور في وضع السكون أو الهدنة إلى أن يأتي زمن آخر.
بينما في الصين الوضع يختلف، فالحزب الثقافي الموحد يحكم مختلف الصينيين بأسلوب الحزب الواحد، وتم إلغاء القوى الأخرى، لكنه مع ذلك استطاع أن يتجاوز المتلازمة الغربية التي تبشر بأن الاستبداد أو الحكم المطلق لا ينجح في إحداث التنمية وازدهار الاقتصاد، وقد تجاوزت الصين بالفعل التحديات لتصل إلى قريب من القمة في الاقتصاد العالمي.
ويختلف الوضع في الغرب عن بقية العالم، فقد ترسخت الديموقراطية في حياة البشر إلى درجة كبيرة، على الرغم من المشككين في حقيقتها، وذلك لأنه لا توجد ديموقراطية طوباوية، ولكن يوجد ميدان متفق عليه تتنافس فيه القوى والأحزاب في وضوح تام، وتوجد فوقهم جميعاً منصة قانونية تحكم في الأمور المخالفة للنظام.
ما يميز النظام الغربي الحالي أن التستر لا ينجح دوماً في حجب الحقيقة، والتستر هو محاولة، سواء كانت ناجحة أم لا، لإخفاء الأدلة على ارتكاب الأخطاء أو عدم الكفاءة أو غيرها من المعلومات المحرجة، وتعني ببساطة حجب المعلومات عن الناشطين في هذا المجال، وعند التغطية النشطة، يتم استخدام الخداع لإخفاء الحقيقة.
تكمن كلمة النجاح في النظام الديموقراطي كفالة حق التعبير في القانون، وعدم وجود حصانة لأولئك الذين يسيئون لاستخدام السلطة، ويعود هذا إلى وجود الإعلام كسلطة غير متوجة، وتدور وظائفها على كشف التستر الذي ينطوي على حجب الأدلة التجريدية، وإزالة اللثام عن خطاب التبييض الذي يعني الترويج عن أدلة مضللة..
ولهذا عند رؤية الوضع العربي من نظرة أفقية شفافة تتضح الصورة بكل تفاصيلها، فنحن أبعد بكثير من أن نكون حتى في أول درجات السلم، فالطبقات الحاكمة متضخمة لدرجة عالية، وهو ما يحجب الحقيقة، ويؤثر على الشفافية وحرية التعبير، ويجعل من الإعلامي أو الناقد في وضع يبحث فيه عن طريق السلام أو النجاة.
أدرك أن الثقافة العربية لم تعرف في تاريخها معنى للحرية أو تعريفًا أشمل لمصطلح القانون فوق الجميع، ولهذا نتخبط في طرق ملتوية في مسيرة الحضارة، ولكن كما قيل أولى خطوات الألف الميل تبدأ بخطوة، ولو بدأنا أول هذه الخطوات بالإفصاح عن الأرقام الصحيحة وبالشفافية التي تفتح الباب للنظر إلى المستقبل، فإننا ربما نتقدم خطوات أخرى في هذه الرحلة الطويلة..
يلاحظ المتابع للتحولات الديموقراطية في إفريقيا منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فقد كسبت جولات الديموقراطية في إفريقيا، ولعلّ ما يميز ظاهرة التحول الديمقراطي في إفريقيا أنها في تصاعدٍ مستمرٍّ منذ عام 1990م، وهو ما يعني أنهم تجاوزوا خطوات السلم الحضاري، وقد كانوا قبل خمسة عقود في ظلام دامس من الفقر والجوع والاستبداد.
كان العرب في الستينيات أكثر ازدهاراً وتطوراً وتعليماً، لكن الأفارقة مع ذلك تجاوزوا الدول العربية، وأصبحوا في مناطق أكثر أمناً من ذي قبل من خلال وضع الدولة في قواعد راسية، وبالتالي إقفال الباب أمام الانقلابات العسكرية والهجمات الأيدولوجية من الأبواب الخلفية، وهما يعدان أكبر تهديدين للدولة العربية المعاصرة، وإذا تخلف العرب من جديد عن وضع قواعد شرعية راسخة للدولة سيظلون أسرى لدورات ابن خلدون العصبية إلى زمن آخر..