عبدالعزيز السماري
تناقل جمهور وسائل التواصل الاجتماعي خبرًا عن دعاية قام بها واعظ عن منطقة ترفيهية وسياحية، وانتقدوا إقدامه على هذا الفعل المشين حسب زعمهم، وكأنهم بذلك يجردونه من اختياراته ومن حقوقه الشخصية في الحياة، ويحاولون إعادته رغمًا عن أنفه إلى خندق المناضلين الذين يرفعون راية الاعتراض على كل تغيير، بينما يبحث الرجل في حقيقة الأمر عن خيارات جديدة في حياته.
تتكرر مقولة شهيرة في فصول الثقافة العربية، وهي كيف نصنع الطغاة، وغرضها أن الشعوب هي من تصنع الطاغية. كذلك تصح مقولة أخرى، وفي اتجاه معاكس، وهي المجتمعات البشرية تصنع مناضليها على طريقتها الخاصة؛ ففي كثير من الأحيان يقوم الناس بدفع رموز إلى أن يكونوا في خانة المناضلين، والضغط عليهم ليقفوا في وجه السلطة إلى درجة الانتحار..
يساهم الإرث الديني في تكريس هذا القالب بين رجال الدين؛ فالصراع مع السلطة تم تصويره على أنه صراع مع الشر، وأن الدين يعني كلمة حق أمام سلطان جائر.
كثير من الرموز في التاريخ الإنساني دخلوا سجل الخالدين في الذاكرة بسبب مواقف سياسية، لو تم تجاوزها لما تحقق لهم الخلود في سجل التاريخ الإنساني. وفي كثير من الأحيان تنجح فلسفة التجاوز والتقدم إلى الأمام في كشف حقيقة بعض المناضلين المعارضين لكل جديد.
فضحت الثورات العربية الأخيرة بعض الشخصيات التي كانت تناضل من الخنادق والملاجئ، سواء داخل البلاد أو خارجه، وكان السبب الاستبداد العنيف من حكم العسكرتاريا في تلك الدول قبل الثورة. وكان من النتائج السلبية للطغيان أن تم تأهيل شخصيات تافهة ليكونوا مناضلين من الدرجة الأولى..
كانت الصورة في غاية الوضوح في العراق وليبيا، اللذين كانا يمثلان قمة الطغيان في ذلك الزمن، وكان غباء السلطة أن صنع مناضلين لهما في السجون وفي الخارج، وكان أغلبهم في غاية السذاجة. وما حدث بعد الثورة في البلدين العربيين يحكي أبلغ الوصف والكلمات عن كيف صنع الطاغية من شخصيات غير سوية مناضلين ورموزًا خالدة، والنتيجة كما نشاهدها على أرض البلدين العربيين..
كان تأهيل المناضل في الشرق العربي في غاية السهولة، ويبدأ عادة بالتغريد خارج السرب، وبعد أول احتجاز أو سجن ينال شهادة المناضل، ثم يخرج بعد أمد متوجًا بثقة العوام. ولو ترك في حاله يبحث عن خيارات جديدة في الحياة لربما وجد ضالته فيها. ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك في التاريخ العربي الحديث.
كان مصير بعض الذين تركوا في حالهم أن استثمروا نضالهم الورقي في حياتهم العامة إما في التجارة أو البحث عن النجومية الإعلامية في مجالات الدعاية، أو في الترويج عن منتجات ومرافق شهيرة. وقد حاول بعضهم أن يتغير في الوقت الضائع، ولم تسعفه الأيام في أن يستثمر نضاله السابق في مجالات مشروعة في الكسب المادي ورغد الحياة.
في كثير من الأحيان يصنع العوام رموزًا لهم، ويدفعون بهم إلى المقدمة وسط هالة من التقديس والتنزيه، ويغضبون عندما يتراجع المناضل أو الرمز عن قضاياه السابقة. ويروى أن الرئيس البوسني علي عزت بيجوبتش دخل المسجد يوم الجمعة فأخذ الناس يفسحون له ليتقدم إلى الصف الأول، فنظر إليهم غاضبًا وقال: (هكذا تصنعون طواغيتكم)..
ختامًا.. كما أن للطاغية سيكولوجية خاصة بها كذلك توجد سيكولوجية للمناضل، وقد تتشابه شخصياتهم في بعض الجوانب، وقد تؤدي أعمالهم وأقوالهم وأفكارهم إلى الكوارث نفسها عندما يكونوا على رأس السلطة؛ لذلك دومًا ما أراهن على ارتفاع درجات الوعي السياسي بالمصالح العليا للمجتمعات، وهي حالة لا تخص الناس فقط، ولكن أيضًا يحتاج إليها الحاكم من أجل فهم أبعاد التطور الإنساني، وعدم الانجراف خلف المواقف الحدية التي قد تخلق طغاة ومناضلين من السذج والتافهين.