د.سالم الكتبي
تؤكد الشواهد جميعها أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتجه نحو إعلان الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» المعروفة إعلامياً بالاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع مجموعة «5+1» في منتصف يوليو 2015. هذا الاحتمال الكبير دفع الكثيرين إلى بناء تصورات وتوقعات حول سيناريو العلاقات الإيرانية الأمريكية في مرحلة ما بعد الاتفاق، وما يرتبط بذلك من سيناريوهات لاندلاع مواجهة عسكرية بين الدولتين على خلفية التوتر المتفاقم خلال الفترة الراهنة.
علينا أن ندرك أن الرئيس ترامب قد هيأ الأجواء تماماً لإعلان الانسحاب من الاتفاق النووي، الذي يعتبره واحداً من أسوأ الاتفاقات في تاريخ الولايات المتحدة، ويؤيده في ذلك فريق المسؤولين من حوله، بعد خروج أصحاب وجهات المغايرة تجاه الاتفاق من طاقم الإدارة الأمريكية، حيث تمت إقالة وزير الخارجية ريكس تليرسون في 13 مارس الماضي وترشيح رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو للمنصب، ومن ثم إقالة مستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر، وتعيين السفير الأمريكي السابق في الأمم المتحدة جون بولتون مكانه.
الانسحاب من الاتفاق قد لا يكون الخيار الوحيد أو الهدف النهائي لإدارة ترامب، بل ربما يكون الهدف الأرجح هو ممارسة أقصى ضغوط على طهران من أجل القبول بتعديل بنود الاتفاق، باعتبار أن التعديل يلبي رغبة ترامب وفي الوقت ذاته يتواءم مع الشركاء الأوربيين.
يبدو توجه الرئيس ترامب منطقياً ووجيهاً بل في غاية العقلانية لأن المسألة لا تتعلق بالانسحاب أو إلغاء الاتفاق كما يعتقد البعض، بل بتحقيق الهدف الأساسي وضمان التزام إيران بروح الاتفاق من خلال التفاوض على اتفاق تكميلي يتعامل مع جهود إيران المستمرة لتطوير برنامج الصواريخ الباليستية بعيدة المدى أو اختبارها، ويضمن تفتيشاً محكماً تقوم به الوكالة الدولية للطاقة الذرية ويعالج العيوب المتعلقة ببند المدة الزمنية للسيطرة على طموحات إيران النووية.
الحقيقة أن الاتفاق النووي لم يكن «نموذجاً» كما يروج لذلك مسؤولو إدارة الرئيس السابق أوباما، فالهدف كان تحقيق ما زعموا أنه انتصار سياسي يحسب لأوباما بأي تكلفة استراتيجية، لذا لم يراع الفريق المفاوض ملفات لا غنى عنها مثل ملف البرنامج الصاروخي الإيراني، كما لم يتضمن الاتفاق أي تعهدات مقبولة بالتفتيش على المنشآت النووية الإيرانية واكتفى بتعهدات إيرانية فضفاضة مليئة بالثغرات التي يفترض ألا تقبل من دولة ذات تاريخ معروف في التهرب والمراوغة والتملص من الالتزامات والتعهدات الدولية.
ما يريده الرئيس ترامب إذن هو ربط الملفين النووي والصاروخي، وهذا مطلب في غاية العقلانية والوضوح، ويؤيده الجانب الفرنسي، أما بقية شركاء الاتفاق فلهم مواقف متباينة ولكن وجهات نظرهم لا علاقة لها بما يطرحه الجانب الأمريكي في هذا الاتفاق تحديداً.
إذا كنا بصدد تقييم نتائج الاتفاق النووي فلن نجد صعوبة في اكتشاف العلاقة الوثيقة بين الاتفاق من ناحية وتوسيع إيران نفوذها الاستراتيجي في المنطقة من ناحية ثانية، حيث وفر هذا الاتفاق لإيران الظروف المناسبة تماماً لاتخاذ قرارات جاءت نتائجها وخيمة على الأمن والاستقرار الإقليمي.
ثمة أمر آخر يتعلق بالمدى الزمني للاتفاق القائم، فمدة الثماني سنوات المنصوص عليها في الاتفاق، غير كافية تماماً لضمان الامن والاستقرار الإقليمي والسيطرة على طموحات إيران النووية، ما يعني أن الاتفاق يؤخر طموحات إيران النووية ويؤجل فقط حلم الملالي في امتلاك ترسانة نووية عسكرية، ولا يلغي نهائياً هذا الحلم، وإدارة أوباما كانت تدرك ذلك، وراهنت على إحداث تغيير داخلي في النظام الإيراني، وهو رهان خيالي لا يستوعب ديناميات ومحركات وفلسفة عمل هذا النظام الثيوقراطي العتيق الذي يمتلك مشروعاً أيديولوجياً ممتداً لم تفطن إدارة أوباما إلى أبعاده وعواقبه.
من البديهي أن يظهر نظام الملالي رفضاً للموقف الأمريكي، فلم يكن منتظراً أن تبادر طهران للقبول بوجهة النظر الأمريكية بشأن الاتفاق، فالمفاوضات حول الاتفاق الحالي استغرقت سنوات عدة، والمؤكد أن الملالي يستعدون لخوض جولة تفاوض جديدة حول تعديل الاتفاق بعد فترة شد وجذب وتهديدات متبادلة كما حدث قبل فترات سابقة في تاريخ العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية.
صحيح أن محاولات فريق المفاوضين في الاتفاق النووي بشأن إدراج البرنامج الصاروخي الإيراني على أجندة المفاوضات قد قوبلت برفض إيراني وقتذاك، حيث اعتبر الملالي والحرس الثوري هذا البرنامج بمنزلة «خط أحمر»، ولكن هذا الرفض قد لا يكون قابلاً للتكرار في حال استشعر الملالي خطراً داهماً على مصير نظامهم، وقتها سيكون لهم بالتأكيد رأي مغاير لما سبق!.
في ظل الشواهد الراهنة، يبدو مصير الاتفاق النووي بين سيناريوهين محددين، أولهما انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق مع استمرار الشركاء الآخرين في الاتفاق، وهذا الاحتمال هو أقرب للواقع، ولكن هذا السيناريو يعني انتهاء الاتفاق عملياً، حيث سيصبح لا قيمة له من دون الولايات المتحدة.
وثانيهما نجاح جهود الشركاء الأوروبيين في التوصل مع الملالي إلى صيغة تضمن فتح باب التفاوض مجدداً حول بنود الاتفاق، ولكن هذا السيناريو ضعيف الاحتمال في ظل الشواهد الراهنة.
تدرك طهران أن من الصعوبة بمكان التفاوض مع فريق الصقور الأمريكي الحالي، فالملالي يثقون تماماً في أن ترامب وبومبيو وبولتون يكنون لها كل العداء، لذا ليس غريباً أن نلحظ تغيراً في نبرة الخطاب السياسي الإيراني باتجاه التلويح بخيارات ما بعد الاتفاق على أمل على أن تسفر هذه التهديدات عن ردع الإدارة الأمريكية عن الانسحاب من الاتفاق، فقد ذكر وزير الخارجية الإيراني ظريف في تصريحات له مؤخراً أن الاتفاق غير قابل للاستمرار في حال انسحبت الولايات المتحدة منه، وأن موقف إدارة ترامب حيال الاتفاق يقوض الاتفاق سواء انسحبت أم لا؟ موضحاً أن لدى إيران «أوراقاً أخرى» ستكشف عنها في الوقت المناسب، ومستطرداً أنها «خيارات غير مستحبة»، والتلميح الإيراني هنا قد يعني الإشارة إلى إعادة تفعيل البرنامج النووي الإيراني.
في كل الأحوال، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي يعني كارثة بالنسبة للاقتصاد الإيراني، فالأزمة الاقتصادية المحتدمة ستتفاقم مع ما يعنيه ذلك من عودة الاحتجاجات الشعبية الإيرانية المعادية للنظام مجدداً، كما يرجح أن يتجه النظام الإيراني إلى مزيد من التشدد والتطرف، لاسيما أن التيار المتطرف كان يشكك دائماً في جدوى التفاوض مع الغرب، وكان يرفض توقيع الاتفاق النووي، ومن ثم فإن الحرس الثوري وقادته سيمسكون بزمام المبادرة خلال مرحلة ما بعد الاتفاق، وعلينا أن نتوقع إيران أكثر جموحاً وشراسة في التعامل مع أزمات المنطقة وملفاتها.
الخلاصة، علينا، كعرب وخليجيين، أن نستعد للتعامل مع نظام إيراني أكثر تهوراً وجنوناً، وعلينا أن نساند جدياً إدارة الرئيس ترامب في كبح جماح هذا النظام الذي يسعى لنشر الفوضى وتنفيذ بقية مؤامراته الإقليمية.