د. خيرية السقاف
الشأن الطبيعي لعقل الإنسان أنه يعمل في التفكير ليس فقط في الآن الذي يعيشه, بل عادة ما يطرح التوقعات, ويستلهم الآتيات, وهو أمر فطري جُبلت عليه خصائصه الفطرية, وبالدربة, والعلم, والتوعية, والممارسة تطور هذا العقل, وظهر في مُنجز الإنسان, إذ استشرف على مر الزمن احتياجاته للحياة فيما يمثّل «عمارة الأرض» التي هي أس أساس في مكونات هدف الرسالة السماوية التي علّمنا إياها, وأبان لنا خيوطها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, فعمارة الأرض لا تكون بلا عقل يفكر, ويخطط, ويستشرف, ومن ثم ينفذ الإنسان خططه, ويقيم مشاريعه على اختلافها..
المجتمعات المعاصرة في العالم الذي ينبهر بمنجزاته العرب بعد أن توقفوا عند حائط الراحلين, ومواقع الثلاثي الأثافي, والنوح بالنسيب, والتمجيد بما مضى, والتفاخر بما انقرض, لم يفعلوا لا لواقعهم إلا الندرة من أفرادهم, ولا يستشرفون الآتي وهو يتسع محيطاً بهم, بكل ما يكتظ به من منجزات استشراف عقول أولئك, ويزاحم بها عقولهم بما لا تحتمل, أو تستوعب..
من هنا كان يسيراً على المجتمعات العربية أن يعشش فيها الخشاش, ويستولي على مداركها الاسترخاء, ويهيمن على سلوك أفرادها التواكل, والانقياد لأي فكرة يغيب عنهم صدقها من دجلها..
في الطفرة التي يمر بها مجتمعنا مواكبة لهذا الحراك المذهل الذي يتقدّمه, ويضرب بجذوره, ويرفع من أوتاده لعين الشمس محمد بن سلمان وهو يوقظ العقول, يكون العقل المتراخي عن مهامه في مجتمعنا قد أخذ نحواً جاداً للعمل الجاد, بكل قواه الفطرية التي مكنها فيه رب السماء, وذلك بإعماله, وتحفيزه, وتنشيطه, وجعله يفكر, ويستشرف, ويعمل من أجل جعل الواقع في الوطن قادراً, ومؤهلاً بقوة ليواكب المستقبل..
هذا الاستشراف الذي تدور به عجلة رؤية النهضة 2030 يتحقق ضمن برامج عامة, وشاملة المعرفة, والخبرة, مروراً بمقدرات الأرض, ومتعلقاتها, فحاجات المعاش, والعمل, والحياة, بناء, وإنجازاً, وتطويراً, واستهلاكاً, وتصنيعاً, وابتكاراً, واستثماراً, فالعلاقات بالأمم الأخرى..
ويبقى هناك جانب من الاستشراف المطلوب العناية به وهو داخل صندوق الذات الفردية.
كيف ستكون مسالك الأفراد فيما يتعلّق بقيمهم, وعصبة أخلاقهم, وخصوصية دينهم, ومفاهيمهم عن الفارق بينهم, والأمم الأخرى في ذلك؟ حين تتدفق عليهم الأفكار, وينغمسون في التفاعل الحيوي مع التغيير, والتطوير وهم منذ البدء قد رفع أكثرهم الغطاء عن الصندوق, وخرج سافراً دون تريث؟!..
لقد كان في إجابة الأمير محمد بن سلمان عن السؤال الذي وجهته إليه إعلامية فرنسية عن عدم مرافقة زوجته له, ما أوحى لي بفكرة الاستشراف لسلوك الأفراد المتوقّع وفق الذي يحدث في دراسات تنبؤية مهمة..
فمحمد بن سلمان اختصرها بذكاء, ولماحية في جملتين أضاء بهما شعلة خضراء أمام الملأ بأن لكل قوم ما يحتفظون به لأنفسهم دون مساس, وهذا لا يتعارض البتة مع أهداف التطور, وما استشرفته رحلته المكوكية المذهلة التي جعلت الوطن ليس في الداخل فقط, بل في أرجاء الأرض «فوق هام السحب», ولعله في هذه الإجابة قد وضع الخطوط الصريحة تحت القيم, والمبادئ, والاحترام لهما, رسالة للأفراد, وللكل.
فهل تتوجه مراكز البحث الاجتماعي للبحث في استشراف سلوك الأفراد مواكبة متوازية مع آثار التغيير, واضعة في اعتبارها الضوابط الأساس المنصوص عليها في جملة القيم, والتميز الديني, والأخلاقي للمجتمع.