د. محمد عبدالله العوين
توقف الزمن فجأة أمام ناظري عند عام 1398هـ وأنا أعبر شارع (الوزير) متوجها من الشمال إلى الجنوب؛ آه ماذا بقي منك أيها الشارع العتيق الذي كان سمة تفاخر وادعاء لمن اشترى منه أو أكل فيه في ذلك الزمن الغابر؟ تداعت صور ذلك الماضي الجميل، عاد ضجيج الشارع وازدحامه ونشاطه وتوثب عابريه؛ هاهي تلك الأقدام النشطة والكسلى تتباطأ في مشيتها على الرصيف الأيمن المسقوف المحاذي لواجهة محلات عرض الملابس الأوربية الفخمة، وبين محل وآخر يقف بائع لبناني وسيم ينتظر مشتريا لا يقصد إلا هذه المحلات الفاخرة التي لا يوجد لها نظير في الرياض آنذاك، وكلمات الترحيب المهذبة تتناثر بقاياها على عتبة المحل لزبون تبدو عليه علامات الثراء، فما كان مألوفا أن يأتي مَن جيبه فارغ أو شبه فارغ إلى هذا الشارع إلا متفرجا يتلهى بوقته أو متسكعا يخاتل النظر إلى ما يقع عليه من ملامح الجمال العابرة، فنصيب فارغ الجيب ممتلئ الأحلام إغناء قلبه وتكحيل عينيه عوضا عن فراغ جيبه وفقر يديه.
كانت هنا على يساري مكتبة اللواء يندفن بابها بين محلات الألبسة، ومدخل المكتبة لا يكاد يتسع لاثنين، وقد تحايل صاحبها على صغر مساحتها فوضع سلما لنزول مرتادي المكتبة إلى قبو مليء بما طاب للعقل ولذ للنظر من الطارف والتليد، وفي آخر درجة من السلم الحديدي الضيق المنحدر إلى القبو تصافحك رائحة الكتب الفواحة الغريبة التي لا تشبه إلا نفسها، هنا إيليا أبو ماضي وعبد الله البردوني ونزار قباني وبدر شاكر السياب وطه حسين ونجيب محفوظ وغادة السمان ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، لم تتغير الرياض - آنذاك - ولم تخطف عفويتها وسماحتها ما عرف بالصحوة، كانت النساء من الجنسيات العربية والأوروبية يتهادين على رصيف شارع الوزير على طبيعتهن دون أن يلزمهن أحد بتغيير ما تعودن عليه من لباس، وعلى الجانب الآخر كانت «دار الكتب الوطنية» ويا طالما لهثت مسرعا أقافز الخطو على الرصيف الطويل الممتد منتهزا الفسحة الطويلة بين المحاضرات في كلية اللغة العربية لأعود إلى مرجع كنت مضطرا إلى الرجوع إليه في بحثي عن «المعرب في القرآن» هنا في تلك الدار وجدت كتاب الجواليقي «الإتقان» وكتاب السيوطي «المعرب في القرآن» وهنا في هذه الدار الفسيحة أقيم أول معرض للكتاب في الرياض عنيت به «الرئاسة العامة لرعاية الشباب» وافتتحه في ضحى يوم بهي الأمير فيصل بن فهد، كان بجانبه محمد حسين زيدان و حمد الجاسر وعبد الله بن خميس وجمع من الأدباء والمثقفين، وقد دهشت حين رأيت محمد حسين زيدان لأول مرة، لفت نظري نضارة وجهه وشدة حمرته على تقدمه في السن، ولا زال وقع صوته المميز يرن في أذني، كانت تلك احتفالية بهيجة، شعرنا فيها نحن الشباب بأننا نستقبل مرحلة ثقافية قادمة زاهية.. يتبع