د.عبدالله بن موسى الطاير
القبلات الحارة بين نيكي هالي (46 عاماً) المندوب التاسع والعشرين للولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة وفاسيلي نيبنزيا (55 عاماً) مندوب روسيا الدائم في المنظمة ذاتها، كانت للبعض صاعقة، حيث جاءت بعد مبارزة استخدمت فيها كل القذائف اللفظية والهجوم المتبادل بين الطرفين مما أشعر المشاهدين بأن حرباً ربما تندلع قبل انتهاء اجتماع مجلس الأمن.
ردود أفعال بقية أعضاء مجلس الأمن وبخاصة غير الدائمين أظهرت قلقاً كبيراً من تشتت المجلس وانقسامه وبالتالي الخوف على النظام والسلم الدوليين، وهنا قد يقول قائل إن القبلات المتبادلة جعلت الكل يعود إلى مخدعه وهو مطمئن إلى أنه لن يكون هناك هجوم أمريكي على سوريا. ومن الناحية المنطقية فإن هجوماً أمريكياً على سوريا دون علم روسيا وموافقتها سيكون بدون أدنى شك تدشين حرباً عالمية ثالثة. ولا أعتقد أن أياً من الأمريكيين أو الروس يريدونها أن تندلع من أجل عيون السوريين، وإذا ما حدث ذلك فسيكون من أجل شيء أكبر من مجرد الانتصار لضحايا الأسلحة الكيمائية في الغوطة.
عندما سُئل السفير الروسي عن تلك القبلات الحميمية قال: «أتواصل وأتحدث مع معظم زملائي الدبلوماسيين. وفيما يخص الأمريكيين منهم، فالعلاقات مع نيكي هالي وبقية أعضاء البعثة الأمريكية، صدقوا أو لا تصدقوا، طبيعية وإنسانية». مؤكداً أنه سيكررها: «سنتبادل القبلات، وقد قلت إن لدي علاقات جيدة فعلاً معها، ورغبة حقيقية في أن تكون علاقاتنا الرسمية جيدة وعلى نفس مستوى علاقاتنا الشخصية».
هالي اختزلت روسيا في بوتن، فغضب نظيرها الروسي ووصفها بعدم اللياقة الدبلوماسية، ومع ذلك فإن الأبواب الخلفية مشرعة للحديث بين الطرفين. وذلك درس في التفاوض والعلاقات الدولية وإدارة الأزمات.
القبلات (الساخنة تلك) حدثت والعالم على شفير الحرب - بحسب التهديدات المتبادلة- ومع ذلك فإن الجانب الإنساني بقي حاضراً في علاقة البعثتين ببعضهما.
السؤال غير الافتراضي هو كيف سيكون حال بعثتين عربيتين في الأمم المتحدة لو حدث بينهما ما حدث بين الروس والأمريكان من خلاف حاد وتبادل للتهم على الملأ؟ هل سيصافحان بعضهما فضلاً عن القبلات والأحضان؟ أم سيخرج كل واحد منهما من باب، ولن ينظر إلى الآخر، وسوف يتبادلان الأطباق الطائرة فيما لو حصل احتكاك بينهما، وستفسد كل الوشائج الإنسانية بينهما.
نحن في عالمنا العربي نختلف عن الغربيين؛ فنحن نحب بإخلاص ونكره بإخلاص ذلك لأننا قوم لا توسط بيننا فلنا الصدر دون العالمين أو القبر. ولأن الصدر مشغول بمن يستطيعون التوسط في الحب والكره وتحكيم العقل والمنطق، فلم يكن من نصيبنا سوى القبور وما دونها من تخلف بسبب عدم قدرتنا على إدارة شؤوننا كما يفعل غيرنا.
كل القضايا العربية يمكن حلها بالحوار العقلاني الذي يترك مسافة للاختلاف دون إلغاء المختلف، وكل مشكلاتنا يمكن لنا أن نتعامل معها فيما لو فصلنا بين الجوانب الرسمية والشخصية، وبذلك نترك للبعد الإنساني سبيلاً للتدخل في الوقت المناسب. الكفاءة الدبلوماسية ليست فقط في توسيع دائرة الأصدقاء وإنما في تقليص دائرة الأعداء. والدبلوماسي الناجح هو الذي يستطيع أن يطرق أبواب أعدائه ويخرج ليس سالماً فقط وإنما بإمكانية العودة إليهم من جديد.
تقنين الغضب وترشيد ردود الأفعال يخرج القضايا من بعدها الشخصاني الذي يتأثر بطبيعة المسؤول الذي يدافع عن تلك القضايا إلى فضاء المصالح المرسلة. فالمصلحة التي لا تحققها اليوم يمكن أن يحققها غيرك غداً. لا يعني كلامي هذا أن قبلات متبادلة بين المندوبين الروسي والأمريكي قد نزع فتيل الحرب، ولكنه يعني أنهما قادران على الحديث إلى بعضهما والتنسيق والاحتفاظ بالبعد الإنساني في العلاقات في أحلك الظروف. ولذلك فإن الضربات الصاروخية التي استهدفت سوريا تجنبت المواقع الروسية كما أن التنسيق تم مع روسيا تحت ذريعة حتى لا يحصل اشتباك غير مقصود في الأجواء.