د. محمد عبدالله العوين
ها أنت تواصل سيرك في شارع الوزير بهدوء وكأن سيارتك حارنة لا تريد أن تتحرك، تقرأ كل لوحة على محل قديم هجره صاحبه أو لوحة جديدة ليس لك بها عهد، هنا مخبز مميز تصافحك رائحة خبزه قبل أن تدلف إليه، وكنت تشتري منه ما تدخل به السرور على إخوانك الصغار حين تسافر إليهم في زياراتك المنتظمة كل أسبوع، ثم سلوت قليلا فصارت كل أسبوعين، ثم قسا قلبك فصارت مرة كل شهر، أخذتك المدينة بصخبها وهمومها التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من همومك، مدينة تخفي حكاياتها التي اكتشفت كثيرا منها حين هجنتك كما تخفي أنت ذاتك في جلباب مصطنع من وقار قروي ساذج، تتجاوز شارة المرور المحاذية لمبنى الأمانة الحجري على يدك اليسرى، أما على يدك اليمنى فمطعم شامي يقع على ناصيتي الوزير والشارع الذي يبدأ من دوار دخنة ويتجه إلى البطحاء اشتهر بعصائره الطازجة اللذيذة، وفي العمارة التي تجاوره تقع مؤسسة «الجريسي لتوزيع الصحف والمجلات» وهنا كان إفطارك الحقيقي عند التاسعة والنصف بعد أن يُطلق عقالك وزملاؤك من قاعة الدرس في الكلية؛ فتصبح على الصحف والمجلات قبل أن تصبح على معدتك بوجبة إفطار شامية خفيفة تتبعها بكأس من الشاي المنعنع ورائحة حبر المجلات والصحف الجديدة لا زال ينز بين أربطة النايلون المحكمة، ونحن الطلاب على الباب ننتظر الإفراج عنها بفك أربطتها لنكون أول قرائها؛ كمجلة العربي والهلال واليمامة وروز اليوسف وصباح الخير والحوادث والبلاغ والمجتمع والدستور والرياض والجزيرة والشرق الأوسط وغيرها.
أين هي خدمات الطالب المتراصة على الرصيف الأيمن المقابل لكليتي الشريعة واللغة؟ وأين زحام الطلاب وأياديهم المتشابكة مع أصواتهم مستعجلين تصوير المذكرات أيام الامتحانات؟ وأين تلك البقالة المتراصة بضائعها الصغيرة والكبيرة بحيث لا تجد لقدمك موضعا للمشي بينها؟ لا شأن لنا نحن الطلاب بما تكنزه من معروضات قدر اهتمامنا بقوارير البيبسي الباردة أو المثلجة تبعث فينا نشاطا سحريا وبهجة لا حدود لها وكأننا ملكنا العالم.
لم يبق شيء من ذلك كله، لقد سويت تلك المحلات بالأرض وهدمت البنايات القديمة ونهضت الآن عليها محطة مترو ضخمة تزين سياجها الخشبي رسوم مبهرة أخاذة لصورتها النهائية بعد أن تنجز.
وهذا باب كلية الشريعة وغير بعيد عنه باب كلية اللغة، كم مرة قطعت هذا الشارع وحدك أو يدك في يد زميل؟ وكم مرة أمسكت بيد أستاذ غير مبصر تخشى عليه من السيارات الطائشة فتعبر به إلى الضفة الأخرى الآمنة، تتذكر ذلك الدكتور الأزهري بجلبابه الرمادي المميز وعمامته الصغيرة الملتفة على قلنسوة حمراء، كنت تلقي عليه تحية الصباح فيرد عليك بصوت لا يكاد يسمع معتقدا أنك أحد طلابه البارين، وبين البابين يا طالما دارت نقاشات ونحن وقوف، بعضها مهادن لطيف وبعضها الآخر مصادم عنيف، كان طلاب الشريعة يعتقدون أننا طلاب اللغة العربية نميل إلى التحديث المنفلت، وكنا نرى كثيرين منهم منغلقين أشد الانغلاق.. يتبع