التقيتُ البارحة وعلى شرفها في مطعم (أموري) الإيطالي معلمتي الفُضلى مريم خليفة الملحم مديرة مدرستي للمرحلة المتوسطة؛ إذ تربطني معها علاقة حميمية حانية منذ أن كنتُ طالبة ذات أربعة عشر ربيعاً حتى الآن على أعتاب الأربعين (1990 ـ 2018) بدعوةٍ منها للقاءٍ مسائيٍّ ظريفٍ، حالِمٍ؛ خلا من أيِّ شيءٍ عدا أعواماً عشرينَ ونيفاً، تتقافزُ على أسوار الزَّمن الرَّؤوم الذي ألانَ أقدارَهُ التي جمعتنا يوماً من سنين خلت، وجمعتنا من جديد!
لم تغيرنا السِّنونَ الرّهافُ حُبَّاً وصدقاً وثباتاً، وإن غيرتنا ملامح نوعاً ما ليست بالكثيرة!
استرجعنا معاً أعوامنا العشرين، وما زلتُ أتأرجحُ بين يدي المديرة اليافِعة يومها من بين مديرات المدارس العجائز المهترئات بسلطويَّة المدير الغضوب أيَّامها.. ولم تزل تتذكر جيِّداً نبرة صوت (اعتدال الذكر الله) طالبة الصَّفِّ الثاني الإعدادي وهي تقدِّمُ برنامج الإذاعة المدرسيَّة كلَّ صباحٍ، وصفوف الطالبات بفناء المتوسطة الحادية عشرة في الهفوف ينصتنَ للقصائد الوطنيَّة، وتعابير الحياة المُفعمة بالأماني العِذاب.
وبعد عودتنا البيت إذا بها تباغتني بمرسالٍ طَيِّبٍ أنيقٍ ظريفٍ مَهيبٍ بهيبةِ السِّنينَ العشرينَ الشِّفَاف، وتكتب: «الشاعرة اعتدال الذكر الله، طالبتي النجيبة المجتهدة المتفوقة.. لم تنسني، ولم أنسها، تربطني معها علاقة منذ أن كانت طالبة متوسط، وكنتُ أتعامل مع عقلها الكبير رغم سنِّها الصَّغيرة!».
هنا أثارتني العباراتُ جمالاً وأناقةً وروعةً وثقةً بالنَّفسِ المائِزة المتميِّزة وقتها، وكيف لطالبة ذات أربعة عشر عقداً ياسمينيَّـاً أزهر، وفي المرحلة المتوسطة الدراسيَّة، أن تحوز ثقة مديرة المدرسة، وليست معلمة موادها التعليمية؟! هرم الأسرة المدرسيَّـة والقائدة المهيبة التي تهابها المعلمات قبل الطالبات! وكيف لاعتدال التلميذة الصغيرة أن تفوز بقلب وانتباه واهتمام المديرة الأريبة العجيبة من بين مئات الطالبات بمراحل المدرسة الثلاث! إلاَّ أن يكونَ في اعتدالِ الطالِبة ما ليس في غيرها من تقاسيم وإضاءات، لفتت انتباه المديرة وقتها، فاستهوتها تلميذةً وصديقةً وقريبة. ومع تعداد السنين، ومدار إدارتها المدرسية، وتعاقب الأجيال العلميَّة، وتباين الأطياف!
وما السَّردُ أعلاه إلاَّ إشارة مقصودة، أعنيتُها عياناً بياناً لإيصال رسالة حضارية تأدميَّة إنسانية تربويَّة تعليميَّة ناهضة فاعلة لجماليَّات العلاقة التفاعليَّة الديناميكيَّة الواقعيَّة الهادفة بين الرئيس والمرؤوس، وبين المعلِّم والتلميذ، وبين الصغير والكبير.. باختلاف مشاربهم، وتباين أدوارهم، وتعدد وشائجهم، وفروق أيديولوجياتهم مع تشابه بيئاتهم المدنية المحليَّة الغائرة في خارطة البلد الواحد!
وهذا ما نفتقدهُ الآونة الأخيرة مع تتبُّع الأخبار، ورصدها عبر وسائل التواصل الاجتماعية ومواقف المعلمين وتلاميذهم، وإساءات بعض من أغرتهم الأسماء، وأطاحت بهم في هاوية الفضائح الإعلاميَّة، ومستنقع التحقيقات الإداريَّة، ومغبَّة العقوبات السُّلوكيَّة، وبصمات الهيبة المُهدرة لأشرف الوظائف البشريَّة، وأنقاها رسالةً، وأصدقها وطنيَّة واعتباراً!
جميلٌ جداً وجداً جداً أن يستثمرَ المُعلِّمُ دوره القيادي في استنهاض جيلٍ من تلامذته، يعتزُّ بثقته بنفسه، ويعتدُّ بحضوره الضوئي اللافت لانتباه من حوله بموهبةٍ فريدة، وهواية مفيدة، وثقافاتٍ عديدة في مجالاتِ العلومِ الحيواتيَّة وفُنُون العَلاقات التَّواصُليَّة، ويؤدلجها ما استفاقَ عمرٌ؛ واستطابَ وطنٌ، وعزفها لحناً أوحديَّاً، تراقص على وقعاتِها أمنياتُ الأمل، وآمالُ المنى، ومواقفُ الذكريات.
** **
- اعتدال ذكرالله