(نصوص) هو الاسم الذي يفضله كثير من شعراء النثيرة حين يصنفون نتاجهم هربا من ملاحقة الشعراء والنقاد.. فأنصار الموزون يحاسبونهم على هناتهم العروضية إن اقتربوا بكتاباتهم من ساحته، وكتاب الشعر المنثور ينتقدونهم إن هم أغفلوا بعض القواعد الأساسية لشعرهم.
ومنهم من يحاول البقاء في منطقة محايدة بين الخاطرة والقصة القصيرة من ناحية الموضوع، وبين النثر والشعر من حيث الشكل، فتتعدد التصنيفات من مثل: خواطر شعرية، ومضات شعرية، شذرات...
ولم تكن سما يوسف - كاتبة المقال الاجتماعي والخاطرة الوجدانية - حين أصدرت كتابها الأول (بك أكتفي) بدعا من هؤلاء، فقد اختارت أن تصنفه بـ (نصوص أدبية)..
والحق أن لسما يوسف قدرة على كتابة الشعر الموزون التناظري والتفعيلي إضافة إلى كتابة الشعر المنثور والخاطرة النثرية لكنها - فيما يبدو لي - لا تهتم كثيرا بالشكل الذي تصوغ فيه إبداعها حتى لا يكون حائلا بينها وبين التعبير عما تريد بكل شفافية، فهل قصدت الكاتبة أن ترينا قدرتها على الكتابة بأكثر من شكل؟ أم أرادت أن تتيح لكل قارئ ما يرضي ذوقه ويشبع نهمه؟!
يتضمن هذا الكتيب عددا من النصوص والومضات تشترك كلها في أنها ذات موضوع وجداني يتمحور حول الغياب والرحيل والفراق، صيغت كما يتطلب الموقف بأسلوب رشيق معبر عن المضمون أصدق تعبير..
صدر الكتاب حديثا عن دار السكرية بالقاهرة في ستين صفحة، يزين غلافه الأنيق رسم لامرأة تحمل مظلتها في يوم مطير وتسير إلى حيث يقودها قلبها!.
يبدأ الكتاب بمقدمة قصيرة تمثل قطعة أدبية تقول فيها: «حين شعرت بأن الكتابة سعادة قلت لأحرفي كوني طيرا، واصنعي من قلوب البشر عشا، أو كوني نجوما وقلوب البشر السماء». ص5
وفي نص بعنوان (وحيدة أنا) تقول:
«وما بين سياط الأنين.. وسحائب الحنين.. كنت في طريق الغياب أغرس باقة أمل،
وهدأة يقين بأن من غابوا - إلا من القلب - راجعون.. لا محالة راجعون.. سأنتظر .. وسأنتظر». ص7
ومن وحي المطر تقول:
«إذا سقط المطر يمتلكني حنين إلى المدينة التي شهدتْ أولى لقاءاتنا.. إلى سماع نبضات قلبينا». ص16
ولها مقطوعة من ثلاثة أبيات بعنوان (محال) من الشعر التناظري على بحر المتقارب، لكنها أتبعتها – دون فاصل - بمقطوعة من شعر تفعيلة المتقارب (فعولن) ويبدو أن تداخل المقطوعتين خطأ إخراجي. تقول:
قصيدة عمري.. أجيبي فضولي..
رجوتك قولي.. مللت السؤال..
فما بال صمتك يذكي الظنون؟
أأرحل رغم اشتياقي.. ورغم وفائي.. ورغم فؤادي..
وبالصمت ترحل كل الأماني.. وكل المعاني..
ويفنى السؤال؟!. ص21
ومن أصعب الأمور اجتماع غربة الوطن وبعد الحبيب:
اشتقت إليك منذ غادرتُ صالة المغادرين..
أحسست بالغربة.. لأنك وطني
تذكرت قولك: «لا يعرف الوطن إلا من عرف الغربة»..
وأستغرب بعد رحيلك كيف ما زلت أعيش؟!
ص22
ومن نص بعنوان (غريب) افتتحته ببيت من الشعر العامي:
«في داخلي شيء غريب.. مدري غلا أو حزن»..
كالرعد.. كالغيم.. كالمطر..
يرعبني.. يتجول داخل أوردتي..
يشعرني بالهذيان..
يفرحني.. يغرقني في نشوة أشجان..
يظنه البعض مرضا لا شفاء منه..
فيصف لي عشبة تسمى (الصبر)! ص23
وهنا تبدو التورية واضحة حين تصرف ذهننا إلى نبتة (الصبر) المعروفة بمرارتها واستخدامها علاجا!..
وتشكل الأماكن القديمة حين يمر بها المحب وحيدا بعد أن كان يرتادها مع شريكه شوقا مشوبا بالحزن:
«من أين للأماكن القديمة أن تحيي ذكرياتها المخبوءة في ثناياها لمجرد المرور بها؟ خاصة عندما تجمعنا بأحباب تركوا في حياتنا بصمة لا تنسى ولا تمحى، وصاروا جزءا من حياتنا؟!». ص25
وتزداد وحشة المكان حين يمر به المحب وحيدا فيشعر بتوقف الزمان:
«للأماكن بداخلي صمت رهيب.. يخيفني.. يفقدني الإحساس بالأشياء..
توقُّفُ الزمان يكبلني.. يعبث بي.. يزيد غربتي..
عيني لا تغادر جهاز اتصالي..
اتصال منك سيعيدني للحياة وينهي عبث مشاعري.
أبدو كشجرة خريف موحش انتظرتْ ربيعك طويلا لترتوي منك وتزهر.. فأنا بدونك لن أكون؟. ص27
وكما يحرص الإنسان أن يكون مُشبعا عاطفيا؛ فإنه أحيانا يحس بالاختناق عندما تتزاحم العواطف في النفوس. تقول كاتبتنا:
«بعض النفوس لا تحب المحاصرة.. تختنق بالعواطف إن جاءت بسخاء، لذا يضطر مثل هؤلاء أن يهربوا هروبا مؤقتا حتى تعود قلوبهم لضخ الشوق من جديد». ص28
ومن مقطوعة بعنوان (ابحث عني) تقول:
«ابحث عني.. تجدني في غربة الروح.. في فيض البوح.. في حرقة الفؤاد..
ابحث عني.. تجدني في عيون الحزانى.. في تساقط الأوراق في زمن الخريف.. في زمن الشوق وليل البعاد». ص29
وفي قصيدة تفعيلة بعنوان (دعوت الرياح) تقدم لنا حكاية متخيلة تستمدها من تعايشها مع الطبيعة:
«دعوت الرياح التي تتثاءب بين جذوع الشجر.. إلى غرفتي.. أتتني..
قرأت لها ما كتبت أخيرا.. (بكيت ُ)..
رويت لها قصة الحزن.. أصغت.. وأصغى السهر..
ورحت لها أسرد الوقت..
أغزل من خيطه الحالم اللون شعرا..
وألعب في شعرها الكستنائي والليل يمضي..
وحط على مقلتيها المنام..
تركت لها في فراشي مكانا صغيرا.. فأغفت.. وأغفى القمر..
وقمت دعوت الشجر..
فجاء بطيئا.. يجرجر خلف خطاه ليالي الضجر!».
ص36
ومن المقطوعات العمودية مقطوعة للعام الجديد تقول فيها:
يا أيها العام الجديد أضــئ
فجـرا كقلبك.. بالسلام هفا
أطلقه طــائر فتنـة ورؤى
من ورد هاتفه الرقيـق صـفا
رتل نشـيد الحب نســمته
في العاشقين مرنمـا.. شـغفا
الحب بستان القلوب شذى
في الأرض يعزف زهرها ترفا
ص40
ومن مقطوعة تلقي فيها تحية الصباح إلى مدينتها (جدة) تقول:
صـباح الخير يا جدة
مساء الحب والوردة
وأرجو منك لي عذرا
على التأخير ذي المدة
أتيتـك كـل أشواقي
من الأعمـاق مرتـدة
أتيت كشـامة حيرى
تثور من الهوى ضده
ص 52
وكما بدأت الكتاب بمقدمة أدبية رقيقة أنهته؛ بسيرتها بصياغة أدبية رشيقة مختلفة عما اعتدنا أن نقرأه في السير الذاتية:
«من أين أبدأ سيرتي الذاتية؟.. من صرخة ميلادي، وابتسامة أمي رغم عنائها؟. أم من الساعة التي حضنني فيها أبي وقبلني على جبيني، وأذن في أذني، وكبر وسماني باسمي؟.. أم من اليوم الذي صحبتني أمي للمدرسة، وتعلمت أول الحروف وكتبت اسمي وانطلقت إلى عالمي في الكتابة بين الحقيقة والوهم. من أين أبدأ سيرتي في الحب؟ من ذلك اليوم الذي باركت لي فيه أسرتي لأنتقل إلى من سميته وطني وخبأني بين أضلعه وأعطاني لقب (....)! ص61
قبل الختام: لم تحرص المؤلفة في كتابها على وضع عنوان لكل نص، لكنها وضعت أرقاما تسلسلية لها، وقد أسهم مخرج الكتاب على توهان القارئ، فلم يبرز العنوان ببنط مختلف لونا أو حجما، ولم يترك فراغا تحته.
أما في الختام فأقول لكاتبتنا: لا بأس أن تنوعي في الكتابة بين الشعر والخاطرة، لكن عليك أن تعطي الشعر ما يستحقه، فلديك ملكة وقدرة وتجربة في كتابة الشعر الموزون لا تحتاج منك إلا إلى منحه شيئا من الوقت والجهد.
سننتظر إصدارك القادم، فلا تقولي لكتابك الأول: (بك أكتفي)!
** **
- سعد عبدالله الغريبي