في الأرض المنخفضة تتسارع الطرقات رغم أنها بطيئة مثل أي أرض تحاول الصعود إلى أعلى، لكنها الثورة دائماً وأبداً، هي التي تحرك جمود الوقت وطبقات المجتمع، هي الأحلام وعدم القدرة على الصمود أكثر. تبدأ القصة بمولد الطفلين أوديان وساباش في حيٍ فقير تتداعى فيه احتمالات السقوط أكثر من أي احتمالات أخرى، يولدان ببساطة وبخفةٍ إلى العالم المليء بالجوعى وقطاع الطرق، ومن الصغر تظهر الشخصيات واضحةً لأي شخص يدقق النظر، صبيان يفتحان عينيهما على الفقر والعوز والحاجة، أبٌ بسيط يعمل في خطوط السكة الحديد، وأمٌ أبسط تساعده على الحياة بإبر الخياطة، يتربى الصبيان في بيت متواضع وصغير، يتعلّمان كل شيء حولهما متجاوزين الحدود، متفوّقان دراسياً وهذا ما دفع والديهما إلى المغامرة بكل شيء من أجل تعليمهما، يكبران وهما روحان واحدة، ورغم الشهور التي تفصل بينهما إلا أنه يظهر للكل أنهما توأم ملتصق، يختار الأصغر أن يمارس حقه في الاعتراض والتمرد، يشارك أوديان الغريب والجريء منذ صغره في ثورة كالكوتا التي بدأت في العام 1968 متأثرة بفكر ماو تسي تونغ الشيوعي، ينضم للحزب المتشكّل في الهند التي تريد أن تخلع عنها عباءة الحكومة الظالمة وترتدي نظام الحرية، ينازع نفسه ونظاماً بأكمله إلى أن يلتقي بحبه الذي يملأ فراغه بعد رحيل ساباش إلى أمريكا لإكمال دراساته العليا، يتزوجها رغماً عن الكل وبلا أي اتّباع للطريقة التقليدية في الزواج، يفرضها على أهله بينما يحاول أن يثبت لهم، أن الثورة لا بد أن تبدأ من البيت. وتتوالى الأحداث حتى يسقط بكامله في الأرض المنخفضة. أما ساباش الأخ الأكبر والخجول والمتردد وغير الواثق طوال الوقت، لا تعجبه الثورة ولا النضال الزائف ومحاولة إثبات الذات تحت وطأة العنف والدم، يهرب إلى أمريكا فور أن تسنح الفرصة، يفتح الآفاق لنفسه بعد أن كان أقصى ما يعرفه في المدينة هي الجامعة فقط، وبعد عدة سنوات يعود إلى الهند فور استدعائه ليتابع الأحداث التي جرت في غيابه، يعترض على كل ما حدث ثم يتخذ قراراً مصيرياً للمرة الأولى في حياته ويتمنى أن يكون التوفيق حليفه، وبعد أن يعود إلى أمريكا مرة أخرى، يكتشف أنه قد تخلّى عن هويته إلى الأبد، بعد أن قدم من مدينة لا متسع فيها للبشر، إلى أخرى لا بشر فيها لملء البيوت الفارغة. يندمج في المجتمع كأي مهاجر وينسى تلك القرية بكل قمامتها وبعوضها وحرارتها اللاهبة.
غاوري المرأة التي سرقت قلب أوديان، ومن بعده ساباش، المرأة التي انقلبت أدوراها في الحياة مراراً وتكراراً، من زوجة إلى أرملة ومن كنة إلى زوجة ومن أم إلى امرأة بلا أطفال، إنها النموذج المثالي لأي امرأة ترضخ للآخرين ثم تكتشف في النهاية أن رضوخها هو أكبر جريمة في حق الذات. تدرس وتتعلّم في أروقة الجامعة الخلفية، إلى أن تصبح محاضرة في الفلسفة لأكثر من جامعة على امتداد الساحل، ولا تنتهي الحكاية قبل اكتشافها أن ما تهرب منه طوال حياتها، لن تهرب منه أبداً.
بيلا.. الابنة التي ولدت بين بلدين ولم تعرف من هي، منذ صغرها واجهتها الحيرة في كل شيء، بين لونها وشكلها وشعرها وماضيها الذي لم تعرف ما إذا كان قد حدث فعلاً أو أنه لا يزال يحدث، هي المرأة التي حين كبرت اكتشفت أنها لم تكبر بعد، ومع أنها كانت تبدو مثل شخص وجد ذاته إلا أن ساباش كان يخشى دائماً أن تكون عالقة في دوامة الضياع، لهذا السبب كرّست بيلا نفسها لرفع مستوى العالم الذي تعيش فيه، كي تحقق ذاتها وتملأ كيانها الذي يبدو فارغاً جداً.
الأرض المنخفضة ببساطة، رواية ساحرة، مقنعة بشخصياتها، سيرة لعائلة عانت من الثورة والموت والضياع والغربة والحقيقة والألم والجوع، إنها رواية يتناسل فيها الحدث مثلما ينسل الخيط من القماش، إنها التأملات في ما يمكن للحقيقة المخبأة في الصدور أن تفعل حالما تغادر عن طريق الفم، إنها الهوة العميقة التي لا تكف عن الاتساع، لكنها تضيق في النهاية، إنها الحياة ببساطة لا أكثر ولا أقل، في اللحظة التي تظن فيها أنك اجتزت كل شيء، تجد نفسك وقد عدت إلى نفس النقطة أكثر حضوراً وتركيزاً وكثافة.
** **
- أحمد صالح