د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
- حب الجمال ذوق، وخلق الجمال فن. (إيمرسون)
- الذوق ضمير الروح. (جوبير)
- لكل إنسان ذوق يرافقه إلى كل مكان. (هنري آدمز)
- لا يمكن للقانون أن يتحكم بالذوق. (توماس جيفرسون)
- ذوقي بسيط جداً، دائماً ما يعجبني الأفضل. (أوسكار وايلد)
* * *
لماذا تختلف آراؤنا في النصوص الأدبية؟ وكيف تتفاوت أحكامنا النقدية رغم أننا ننظر إلى نص واحد؟ وعلى أي شيء نعتمد في إصدار تلك الأحكام؟ وما أهم العوامل التي تتحكم في تشكيل حكمنا النقدي على نص إبداعي ما؟ لماذا يطرب أحدهم حين يصغي إلى تلك القصيدة بينما لا تحرك القصيدة نفسها ساكنا في صاحبه؟ سيقولون لك: السر في ذلك يرجع إلى الذوق، فاختلاف الأذواق يؤثر في نظراتنا ومعالجاتنا وأحكامنا، ولهذا يقال: لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع! ثم يمضون لا يزيدون على هذا الكلام شيئا، ودون أن يقفوا قليلا عند هذا الذوق العجيب، ليقتربوا منه، ويكشفوا عن شيء من أسراره، ويفصحوا عن بعض تفاصيله.
إن المتأمل في مؤلفاتنا النقدية يلحظ قصوراً واضحاً في الوقوف الطويل المـتأمل عن هذه القوة النافذة، القادرة على تلمس مواطن الجمال وتقدير قيمته في النصوص الإبداعية، ولعل الأستاذ أحمد الشايب من أبرز النقاد الذين استشعروا أهمية هذه الملكة، كون كلمة (الذوق) من أكثر الكلمات دوراناً على ألسنة النقاد لشدة اتصالها بما يصدرون من أحكام، ولهذا يفرد لها فصلا مستقلا في (أصول النقد الأدبي)، ليغوص في أعماقها ويسبر أغوارها.
يرى الشايب أن الذوق عبارة عن ذلك الاستعداد الفطري المكتسب الذي نقدر به على تقدير الجمال والاستمتاع به ومحاكاته بقدر ما نستطيع في أعمالنا وأقوالنا وأفكارنا، وتكمن صعوبته في أنه مزيج من العاطفة -وهي الأهم- والعقل والحس، ولهذا تجد من يغلب عليه عنصر الفكر يؤثر شعراء المعاني كأبي تمام والمتنبي وكُتَّاب الثقافة كالجاحظ وابن خلدون، ومن غلبت عليه العاطفة يُفتن بشعراء النسيب والحماسة والعتاب، أما من كان شديد الحس فتراه يفضِّل أسلوب البحتري وشوقي مثلما يفضِّل الموسيقى والرسم الجميل.
أما عن طريقة امتلاكه فيؤكد المؤلف أنه هبة طبيعية تولد مع الإنسان، وبعد ذلك يأتي التهذيب والتعليم، فقراءة الأدب تنمي الذوق وتهذبه وتصقله، وتجعل صاحبه ثاقب الذهن يضع يده على العبارة البليغة والخيال الجميل، ويدرك صدق العاطفة وينفر من كل مضطرب كاذب، كما أن لتربيته العقلية والعلمية دوراً كبيرا في كمال أحكامه الأدبية واتزانها والقدرة على تعليلها.
وللذوق أقسام كما يرى صاحب الأصول؛ منها الحسن السليم القادر على التفريق بين الأدب الصادق الجميل والمتصنع السخيف، ومنها الرديء الفاسد الذي لا يحسن ذلك، والنوع الأول هو الذي يشير إليه صاحب الوساطة بقوله: «إنما نعني الذوق المهذَّب الذي صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة ، وأُلهم الفصل بين الرديء والجيد، وتصوَّر أمثلة الحسن والقبيح»، كما أن منه السلبي الذي يدرك الجمال دون أن يتمكن من تفسيره وتعليله، والإيجابي القادر على الإدراك والتعليل والبيان، كما ينقسم إلى عام يشترك فيه أبناء الجيل الواحد في البيئة الواحدة والبلد الواحد، وخاص مـتأثر بالعام لكنه متأثر أيضا بالشخصية الفردية، يستبد به الفرد أو يكاد، لا يشاركه فيه أحد غيره، والحياة الفنية مزاج من هذين الذوقين، فيه الوفاق حينا، وفيه الصراع حينا آخر، وإذا كان الذوق العام هو الذي يعطي الحياة الفنية حظا من الموضوعية، فإن الأذواق الخاصة هي التي تعطيها حظاً من الذاتية.
ولا يغفل الشايب الإشارة إلى أهم العوامل التي تؤثر في اختلاف الأذواق، وهي البيئة والزمان والجنس والتربية والشخصية الفردية أو المزاج الخاص، ويفيض المؤلف في الوقوف عند كل مؤثر ليكشف عن مفهومه وطريقة تأثيره في الذوق، مستحضرا شواهد تؤكد فاعلية هذه المؤثرات، ومقصوده من الجنس هنا الأصل الواحد، أي الجماعة الذين سكنوا مكاناً واحداً وخضعوا في حياتهم لعوامله عهوداً طويلة، فنشأت فيهم طائفة من العادات والأخلاق وطرق الفهم والإدراك.
ويكشف المؤلف بعد هذا عن أهم وسيلتين يمكن من خلالهما تكوين الذوق السليم، فالأولى تكون بتجنب الأدب الرديء، والثانية تكون بالاتصال بالفنون الرفيعة فهما وتذوقا، وبالامتزاج بخير ما في الأدب من شعر ونثر، من خلال قراءةٍ خالقةٍ يتوافر فيها فهم الأدب وتحليله وبيان ما فيه من أسباب الصواب والقوة والجمال.
ويختم الشايب وقوفه الطويل عند هذه الملكة بحديث مهم عن قيمتها، وكيف أنه يرجع إليها إدراك جمال الأدب، كما تنفع في إنشائه أيضا، إذ إن ما ينشئه الشاعر هو ثمرة ذوقه الأدبي وصورته الدقيقة، كما يؤثر ذوقه أيضاً في اختياره للنصوص، فذو الذوق الجميل يختار الأ دب الجميل، ويؤكد المؤلف أن صاحب الذوق السديد يتمكن من تقدير الآثار الفنية والأدبية وإدراك ما في هذا العالم من جمال وتناسب وانسجام، كما يكون قادراً في الوقت نفسه على الاستمتاع به واللذة والسرور عند إدراكه، إضافة إلى قدرته على محاكاته في أعماله وأقواله.