لم يلزم الله تعالى أحدًا من عباده برضا الناس ولا أمر به ولن يحاسِب عليه، وربما كان رضا الناس من نقمة الله لا من عافيته على نحو ما جاء في الحديث الشريف عن الذي يلتمس رضوان الخلق بسخط الخالق، لتكون النتيجة ألمًا وحسرة على النفس من حيث كانت تؤمل الوجاهة وترجو الأثرة. إن حكمة الله وعدله ولطفه، اقتضت أن يرفع عنا ما لا نطيق؛ فمن يملك إرضاء عموم الناس أو يضمن استدامة ودهم؟
والمقولة القديمة «رضا الناس غاية لا تدرك» حية لا تخترمها السنين ولا يدحضها اختلاف عصر أو تبدل ثقافة. ولأنها كذلك، تمخضت منذ القدم روايات وقصصًا؛ فهذه على سبيل المثال حكاية الشيخ وابنه والحمار التي ذاعت في المشرق وراجت في المغرب وبعض الآداب الأوروبية. وفي الموسوعة الأندلسية الشهيرة «نفح الطيب»، في معرض الترجمة بالأديب والمؤرخ ابن سعيد، يسوق لنا المقري حكاية ابن مع والده حين رأى جرأة الناس على أبيه باللوم والتوبيخ، فرجا والده تحقيق رغبه الناس ليتقي سهام النقد ومعاول التقريع، فما كان من الأب الخبير المجرب إلا أن دعا ابنه لمثال عملي يستنبط به استحالة السلامة من أذى الناس، فأركبه حمارًا ومشى خلفه فشنع الناس على الابن فعلته بأبيه، ثم ركب الشيخ وترك الغلام يمشي فعابوه لصنيعه في ابنه، فركب الاثنان على الحمار فلاموهما لأجله، ثم ترجلا وساقا الدابة فأنحوا عليهما نقدًا وسخرية لغرابة الموقف.
وهذا ابن الخطيب؛ وزير الأندلس الكبير وخاتمة مثقفيها، ينقل لنا معاناته مع من بلي بمكابدتهم من الصم البكم الذين لا يعقلون كما يقول، وهم أبناء موطنه غرناطة الذين أوسعوه ذمًا وأمطروه تأنيبًا في كل أوضاعه، فلم يجد أبلغ لوصف حالهم من استعارة هذه الحكاية وتخليدها في ديوان شعره ضمن قصيدة يشكو فيها حاله معهم:
لا يزال الملامُ عنه بحالٍ حالة الشيخِ وابنه والحمارِ
لم يفلت الشيخ من نقد الناس له ولابنه في كل حال من الأحوال الممكنة لهم مع الدابة، بداية بتهمة العقوق مرورًا بالقسوة والجور، وصولًا إلى الحمق والغرابة. حتى الحمق الذي لا يؤذي به الإنسان إلا نفسه في الغالب، استحال طريقًا للتقريع وذريعة للسخرية عندهم.
وصحيح أن السلامة من الناس غنيمة متعذرة، لكن المرء في منعة منهم متى أراد هو ذلك؛ فالقرار قراره الذي لا يملكه سواه، ووصفة النجاح ألا تعير الناس قدرًا ولا تمنحهم قيمة ما داموا حربًا على فلاحك وخسفا لآمالك وتطلعاتك. وهذا خلق نفيس وسجية نادرة، لا تنساق إلا للموفقين من ذوي الهمم الجبارة والأرواح العالية، وهو عين ما تفطن له الشاعر الأعمى بشار بن برد في بيت سطا عليه سلم الخاسر وأشاعه في الناس ليغدو نبراس سعادة وترياق راحة بال:
من راقبَ الناس مات همًا وفاز باللذة الجسورُ
إن الجسارة بمفهومها الدقيق لا تعني تصلب الرأي أو التغلب أو الصُّرعة، بل تخلق يحمي الإنسان من انبعاثات الأحقاد ونفايات الداخل البشري. وموفق من اتقى بقوة نفسه مساوئ الآخرين، فغنم وسلم، وليس المرء معنيًا أن يعول الناس من سكينته وهنائه، ولا سبيل لرضاهم مهما بذل المرء وحاول، ولو سألوا «الحمار» نفسه وصح له الكلام ما نجا الشيخ ولا ابنه من نقده هو الآخر، رغم أنه أصل المشكلة وقطب رحاها.
** **
- صالح عيظة الزهراني