عبدالعزيز السماري
توجد حالة من الانشقاق في الشرق العربي، ويساهم ذلك تحول المنطقة العربية إلى منطقة صراع بين القوى الأقليمية والدولية، ودوماً ما توجه أصابع الإتهام إلى الحالة الطائفية المتشنجة في الأقاليم والدول العربية، والتي وصلت إلى ذروتها بعد حوالي أربعين عاماً منذ الثورة الدينية الطائفية في إيران.
لازال الكثير يتمنى أو يمني النفس بحدوث ثورة مدنية في منطقة فارس، وذلك من أجل إخماد الاصطفاف والكراهية الطائفية في المنطقة، لكن ذلك لن يأتي بين ليلة وضحاها، فالثورة لها مواقيت وشروط تختلف من زمن إلى آخر، ولا يوجد تاريخ للثورات المدنية في تاريخ الشرق الإسلامي، فالمنطق الديني كان دوماً سيف الحسم في تعاقب الدول، ويساهم في ذلك اختلاف القراءات والتفسيرات السياسية للدين..
كانت قراءة ولاية الفقيه ضرب معلم لتجاوزه لحالة العقل السياسي المشلول عند الشيعة، والذي اختار أن يعيش في السرداب إلى أن يحين زمن خروج الغائب، وكان إقرار ولاية الفقيه بدلاً من انتظار الغائب إدراكاً من الفقيه السياسي بأن المنتظر لن يخرج من السرداب، والحل في استبداله بالفقيه السياسي..
يساهم في طغيان الحالة الدينية على العقول لأنه لا يوجد في المنطقة تاريخ صناعي أو اقتصادي متعاقب، فلم يشهد هذا الجزء من العالم ثورة صناعية تنقل التبعية من المرجعية الدينية إلى المصلحة الاقتصادية، ولو أعدنا قراءة المشهد السياسي قبل ثورة الخميني الدينية في إيران لأدركنا أن الاستثمار في الانفتاح بدون حراك اقتصادي وصناعي مؤثر وبدون قوانين تضمن حقوق مدنية، أعاد المجتمع إلى مرجعية الفقيه السياسي .
فقد اتسمت فترة حكم الشاه بالانفتاح الاجتماعي، لكن صاحبها وجه استبدادي قمعي مروع، فقد أسكت جميع معارضيه، وفتح السجون، واستخدم جهازه الأمني الضخم المعروف بـ السافاك لقمع أي صوت مخالف، ومنع جميع الأحزاب المعارضة والاتحادات والنقابات الرسمية وغير الرسمية، و في عام1975 أسس حزباً حاكما يدعى «راستاخيز» (البعث أو النهضة، وفرض المواطن البالغين في البلاد الانتساب إليه، وصاحب المرحلة فساد واستغلال وسوء توزيع للثروات وفشل تنموي ذريع..
يقال أن الأنظمة لا تسقط، ولكن تنتحر، فقد عاش الشاه خارج التاريخ، وفقد بوصلة التمييز بين الواقع والخيال، وساهم في ذلك نرجسيته الطاغية، ووصل به الطغيان إلى أن يحكم على طريقة الأكاسرة والقياصرة، وأطلق على اسمه ملك الملوك، وعمل بشتى الطرق على أن يطبع شخصيته على جميع وجوه الإيرانيين، وهو ما عجل بدوران الزمن إلى أن يستغيث الشعب بدموية الفقيه الخميني من أجل الخلاص من طغيان الشاة..
جاء استدعاء الدين لمواجهة طغيان الشاة حركة مخالفة لمسار التاريخ السياسي في أوربا والغرب، فقد تطورت السياسة في مسار تصاعدي، بينما يتصف التاريخ في الشرق الإسلامي بقوة الحل الديني في الانعطافات التاريخية، من خلال نداءات تطالب بعودة الأمة إلى البدء من جديد في كل حالة نكوص سياسية، وهكذا مما ولد من حالة من التكرار لا مثيل لها في تواريخ الأمم الأخرى.
كان الخطأ المشترك في مختلف حالات النكوص والعودة إلى إحياء الدين السياسي، خيار الإصرار على الاستبداد والقمع، وهو ما يحرض المجتمع إلى ترك العمل والاتجاه إلى تسييس الحياة من حوله في الدين، بينما كان الحل النموذج أن تكون التنمية واحترام حقوق الناس الخيار الأمثل لحماية المجتمع من العودة إلى الرمزية والحراك السياسي في الظلام.
لهذا السبب اختار الشعب الإيراني الحل الديني، فالمجتمع لم يتغير في واقع الأمر برغم من الانفتاح الاجتماعي، ولازال أسيراً للعقلية الدينية الرمزية، ولم يحقق أي اختراق حقيقي في ثقافة العمل والإنتاج والنمو الاقتصادي، وعندما اقتربت ساعة المواجهة مع نرجسية وطغيان الشاة اتجه للتطرف الديني، وحدثت الكارثة، والتي كان يتحملها نظام الشاة غير العقلاني وغروره وتلاعبه بالثروات والحقوق..
في أيامه الأخيرة أصدر الشاه قرارات وبيانات، دعا فيه إلى إجراء انتخابات مبكرة حرة خلال عام، وأعلن كذلك دعمه للتحول إلى الحرية والحقوق، وجاءت ردود الفعل تجاهه مختلفة، إلا أن صوت الشارع كان أيضاً مختلفاً، إذ أعلن رفضه لأي تسوية مع الشاه، وأعاد إحياء المظاهرات، وحدثت الثورة الدينية في أكبر مسار معاكس لتاريخ الشعوب في القرن العشرين..
ختاماً .. من الممكن أن تحدث ثورة مدنية في إيران، لكن الأرجح أنها لن تحدث في هذا الزمن، فقد يتغير الوضع الحالي إلى نظام ديموقراطي مدني بعد إنتهاء مرحلة المرجعيات الدينية ذات النفوذ، وربما يكون خائمني آخرها، وبعد وفاته قد تأتي مرجعية براغماتية، تقود إيران إلى بر الأمان والسلام مع جيرانها المسلمين..