في البدء نسأل الدكتور محمد عن البدايات: عن الطفولة والنشأة، عن حكايات الوالدين، عن ذكريات الرياض القديمة، والمدرسة الأولى والأصحاب القدامى .
- كنت أول أبناء والديَّ، حظيتُ منهما بعناية خاصة واهتمام بالغ، وكنتُ ذا حظوة متميزة عند جدتي لأبي وجدي لأمي رحمهما الله، فحين تهبّ ريح على الأسرة، ثم يُنظر إلى صغيرها تسكن تلك الريح، وتعود السكينة والحياة الهانئة، فلله الحمد والمنة على ما أودعه في قلوب الآباء والأمهات والأجداد والجدات من رحمة تكون طوق نجاة وقارب إنقاذ؛ لتهنأ الأسرة وتستقر وتعمل وتنتج متغلبة على ظروف الحياة من قلة ذات اليد، وشظف العيش ، ومكابدة أعباء الحياة.
وقد جربتُ حياة الريف؛ إذ كان والدي بعد استقرارنا بالرياض العامرة ، يتركني في بعض الصيفيات عند جدتي رحمها الله في أحد أرياف مدينة بريدة، وهي المريدسية، وصور حياتي تلك المدة لا تفارق مخيلتي، وإن لم يكن البون شاسعاً حينذاك بين الريف والمدينة، فيبقى للريف عبقه وذكرياته !!
وقد كان والداي رحمهما الله حريصين جداً على طلبي للعلم مع أمّيتهما في القراءة والكتابة، لكنهما كانا قنديلين استضأت بهما في دروب العلم، وتغلبتُ بنصحهما ودعائهما على عقبات الحياة .
ومن المؤثرات في توجهي لدراسة اللغة والأدب أتذكر موقفين مهمين شكَّلا رغبتي وتوجهي العلمي منذ وقت مبكر في حياتي:
الموقف الأول: كان في عام 1385هـ تقريباً كان والدي رحمه الله يجتمع مع اثنين من أقاربه وجيرانه بعد صلاة العشاء يومياً ساعتين أو ثلاثاً لسماع سيرة عنترة بن شداد، وسيرة حمزة البهلوان ويقرؤها عليهم أحد الأقارب ممن يكبرني سناً ويسبقني تعليماً، فإن تأخر أو تغيب لأي سبب فإن والدي يطلب مني أن أقرأ عليهم، وكنت حينها لم أتجاوز الرابعة الابتدائية، ويبدو أن الأمر راق لي فأصبحت أتقمص شخصية الراوي أو الحكواتي؛ لما أراه من إنصات وتفاعل من السامعين، ومن إعجاب والدي بهذا، مع أني كنت إذا مررت بكلمة يصعب عليَّ قراءتها انتقلت لما بعدها، ويظهر أن السياق والحماسة من السامعين لم تكشف تجاوزي لتلك الكلمات، وقراءتي لأبي وأصحابه كان لها أثر في تعودي على القراءة، وتأكد ذلك حين كنتُ من المقدمين للإذاعة المدرسية وقتها في مدرسة الرحمانية الابتدائية.
والموقف الثاني: كنت في أواخر السنة الخامسة الابتدائية في «مدرسة الرحمانية « في حي المربع بالرياض، في ذلك العام ذهب والدي رحمه الله للحج، فأحضر لي هدية من إحدى المكتبات المجاورة للحرم عبارة عن نسخة من كتاب جواهر الأدب للهاشمي ما زلتُ أحتفظ بها في مكتبتي، وبعد سنين طويلة سألتُ والدي رحمه الله عن سبب اختياره ذلك الكتاب ! قال لي رحمه الله : إني وقفت عند صاحب المكتبة وأخبرته عن تعلقك بالقراءة والكتابة، وطلبت أن يختار لي كتاباً أهديه إليك فاختار لي هذا الكتاب .
ويشاء الله أن ألتحق بعد المرحلة الابتدائية بمعهد الرياض العلمي، وكان نقلة علمية في حياتي؛ لما فيه من مناهج رصينة متميزة في الجانبين الشرعي واللغوي، ويتولى تدريسها نخبة من الأساتذة الفضلاء الذين يتسمون بالجد والحزم والتمكن العلمي رحم الله الأموات منهم وأطال في عمر الأحياء على طاعته .
كانت والدتي رحمها الله تملك ذاكرة جيدة تحفظ سوراً من القرآن الكريم، وعدداً من الأدعية المأثورة، وكانت مغرمة بحفظ قصائد والدها رحمهما الله، وكنت أدوِّن ما أسمع منها، وتسرُّ كثيراً حينما تسمعها مني، وهي في الأغلب قصائد اجتماعية باللهجة العامية، وكانت رحمها الله من أكثر المحفزين لي لمواصلة تعليمي ومتابعتي في تحصيلي العلمي في جميع المراحل، وكانت تتابع بعض برامجي الإذاعية والتلفازية، وتذكر ملحوظاتها وانطباعاتها، وتختم كل ذلك بدعواتها الطيبات التي رأيتُ أثرها في كل شؤون حياتي تغمدها الله بواسع رحمته.
ومن أغرب المواقف التي أتذكرها عن مرحلة التعليم العام أنني حين أصبحت محاضراً في كلية اللغة العربية فوجئت بأن أحد الطلاب المسجلين للمقرر الذي أُدَرِّسه كان أستاذاً لي في المرحلة الابتدائية؛ لأنه من خريجي معاهد المعلمين، والتحق بالجامعة منتسباً؛ ليُحسن وضعه العلمي والوظيفي .
أما الأصحاب القدامى فزملائي في معهد الرياض العلمي ما تزال علاقتي بهم قوية، وبيننا لقاءات دورية منتظمة كل ثلاثة أشهر، وكثير منهم تسنّم مناصب مرموقة في الدولة في القطاعين المدني والعسكري، وثلة منهم زملاء في التعليم العالي جلّهم حصل على الأستاذية في تخصصات متنوعة، وفي كل اجتماع لنا نذكر نعم الله علينا في وطننا الأغر العزيز كيف كنا ؟! ، ثم كيف أصبحنا ؟! أدام الله نعمه على وطننا الحبيب وأدام أمنه وأمانه ، وزاد في تطوره وازدهاره .
* تدرجت في المراحل التعليمية والمراتب العلمية حتى مرتبة الأستاذية: كيف تنظر إلى هذه المسيرة العلمية الممتدة؟ ما العلامات الفارقة فيها ؟ وما الموضوعات التي تستقطب ا هتمامك هذه الأيام ؟
- حين التحقت بالمعهد العلمي بالرياض عام 1389هـ لم أكن متفرغاً للدراسة في كل وقتي؛ إذ كان والدي رحمه الله يكلفني بعدد من الأعمال المعينة له على ظروف الحياة، فكانت تقتطع جزءاً من وقتي، وقد بارك الله لي في الوقت والجهد، وأفادني هذا في اعتمادي على الله ثم على نفسي في كثير من الأعمال، ومع هذا الانشغال كان للقراءة والتحصيل العلمي نصيبٌ مهم من وقتي .
وثمة أمر آخر له علاقة بالمنافسة على التحصيل العلمي والتفوق في التقدير والترتيب بين أقراني أن أحد جيراننا ممن يكبرني سناً ويتقدمني تعليماً وهو الأستاذ سلامة بن عبد الله الهمش يدرس في كلية اللغة العربية، و كان حادّ الذكاء متحدثاً فصيحاً حريصاً على التميز والتفوق والحصول على الترتيب المتقدم، والمنافسة على أشدها بينه وبين أستاذي القدير الأديب الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع في الحصول على الترتيب الأول طوال دراستهما الجامعية، ولم ألتقِ بالدكتور محمد الربيع إلا في آخر سنتين من دراستي في المعهد العلمي؛ إذ تعيَّن مدرساً في المعهد، فدرَّسنا بعض المقررات، وكان يطلب منا في نهاية كل درس أن نوجه إليه أي سؤال يخطر لنا على بال في أي موضوع !! فكان هذا الموقف يشكل عندي تصوراً مهيباً لشخصيته العلمية، ومن ثم الجهة التي درس فيها وهي كلية اللغة العربية، ثم تشرفتُ بعد سنين عدداً بصحبته أستاذاً ومسؤولاً وزميلاً في الجامعة وفي الكلية نفسها !! وتبقى شخصيته العلمية والأدبية والنقدية عالقة في الذهن لها مكان تقدير الطالب لشيخه !
حين التحقت بكلية اللغة العربية كان فيها مجموعة من أساتذتها من أعلام اللغة والبلاغة والأدب والنقد على مستوى العالم العربي، وكان لهم الأثر الكبير عليَّ في تأصيل التوجه العلمي والحرص على المنافسة والتفوق في الترتيب بين الزملاء، وأثمر ذلك عن طباعة الجامعة لبحثي المشترك مع زميلي وصديق عمري الأستاذ الدكتور عبد الله العريني في سلسلة « أدب الدعوة الإسلامية « ومن ثم كان ترشيحي لأعمل معيداً في الكلية بعد أيام قليلة من إعلان نتائج الاختبارات في سنة التخرج .
منذ ذلك الوقت كان عملي وتدرجي في الرتب العلمية، بدأتها بالإعادة وختمتها بالأستاذية والعمادة، وكان ذلك كله بفضل من الله سبحانه، ثم بدعاء الوالدين، وبالاعتماد على الله ثم على النفس، والتشجيع الجميل من الأساتذة المتميزين، والتحفيز الدائم من الزملاء والأصدقاء الذين سعدت بصحبتهم، وما وفرته لنا حكومتنا الرشيدة في بلدنا الأغرّ المبارك المملكة العربية السعودية من وسائل يسرت لنا إتمام المراحل التعليمة والترقي في المراتب العلمية، حفظ الله بلادنا قيادة وحكومة ومجتمعاً، وأتمّ عليها نعمة الأمن والاستقرار والترقي والازدهار .
محطات متنوعة :
- من العلامات الفارقة أن تطبع الجامعة بحثي المشترك مع زميلي وأنا ما زلت في المرحلة الجامعية فهذا مبعث فخر لي ولزميلي، وكان محفزاً لمرحلتي الدراسات العليا.
- تمرُّ على الباحثين في إعداد الرسائل العلمية عقبات متنوعة، وكنا مجموعة من معيدي الكلية نجتمع لنناقش تلك العقبات العلمية خاصة، ويستشير بعضنا بعضاً فيها، فتألفت ببيننا صحبة علمية إضافة إلى زمالة العمل، وما يزال هذا اللقاء مستمراً حتى الآن بعد تقاعدنا، ولهذا اللقاء أكثر من أربعين عاماً !! كل وقته مخصص لتدارس قضايا التخصص العلمية .
- من أفضل ما مررت به في العمل الجامعي على مستوى المناصب العلمية والإدارية واللجان المتعددة ، أن أهيئ نفسي لأن أكون رئيساً هذا اليوم، وأكون في الغد مرؤوساً من أحد زملائي الذين كنتُ أستاذاً لهم أو مشرفاً عليهم أو مناقشاً لرسائلهم، وكم كان هذا الأمر يسرني، فأأتمر بأمر من كنتُ آمرهم وأنا في غاية السعادة والطاعة سواء أتفقتُ معهم أم اختلفتُ في الرأي عنهم، وهذه عندي من أهم سمات العمل الجامعي .
- من التقاليد العلمية للأستاذ الجامعي الترقي عن طريق البحوث العلمية، وهذه من المحفزات العلمية لتواصل الأستاذ الجامعي بالبحث العلمي في مجال التخصص، وحبذا لو اتجهت نسبة كبيرة من هذه البحوث لخدمة المجتمع في مجال التخصص فهذا سيفتح مجالات جديدة للباحثين، ويخدم المجتمع بتقديم الحلول من أساتذة الجامعات الذين يعدون من نخب المجتمع .
- أما ما يشغلني هذه الأيام فهو إتمام عدد من الأبحاث التي أشغلتني الأعمال عنها، والتعاون مع جامعات وطني الحبيب والعالم العربي في مجالات التحكيم العلمي ومناقشات الرسائل والمحاضرات في مجال التخصص، وخدمة اللغة العربية تعلماً وتعليماً ونشراً.
* تتبعتَ في رسالتك للماجستير جهود الأديب والبلاغي المتميز: ابن قتيبة، كما درستَ في رسالة الدكتوراه شروح البديعيات، وهما موضوعان مثيران للاهتمام، فمتى يريان النور: طباعةً ونشراً ؟
- كنت أتمنى أنني بادرت بالنشر فور الانتهاء منهما، ونشرهما بعد هذا الزمن الطويل يحتاج لجه د مضاعف؛ فلا يمكن أن أنشرهما دون الإشارة إلى ما استجد مما ورد فيهما، ثم إن إجراء التعديل عليهما سيحتاج إلى جهد مضاعف، وقد يكون الحل في اقتطاع بعض ما ورد فيهما مما أراه مناسباً لإفراده مع ضرورة التنويه بذلك، وأسأل الله أن يختار ما فيه الخير بشأنهما وغيرهما !!
وحين كتبت رسالتي في الماجستير عن البحث البلاغي عند ابن قتيبة رحمه الله شدتني شخصيته المتزنة الواعية، فقد كان عفّ اللسان واسع المعرفة بعيد النظر في علوم اللغة، سليم المعتقد فيما أحسبه والله حسيبه.
* البلاغة العربية: شغفك العلمي القديم والمتجدد، سبرتَ جهود العلماء فيها، وتتبعتَ تياراتهم الفكرية، ورصدتَ منهجياً اختلاف عناوين مؤلفاتهم، وقضايا المصطلح البلاغي لديهم، وحققتَ عدداً من المخطوطات البلاغية، وقدمتَ دراسات تحليلية لبعض الأساليب البلاغية الواردة في القرآن الكريم؛ فما الذي أردتَ قوله من خلال كل هذه المؤلفات؟
- أردت أن يتعرف الباحث الكريم على جهود أسلافنا المتميزة في كثير من المجالات، ومنها مجال تخصصي في البلاغة العربية، كما أردت أن يتيقن الباحث في التراث أن وجهات النظر المتعددة والاختلاف في الرأي والتوجه في التأويل لا يمنع الإفادة مما لدى المخالف، فما كان صواباً يؤخذ به مع الدعاء لصاحبه بالرحمة والرضوان، وما كان مخالفاً يُرد عليه بكل أدب واحترام مع الدعاء لصاحبه بالرحمة والغفران، وهذا – في رأيي - شأن الباحثين المنصفين .
كما أردت أن يدرك الباحث في التراث أن ما أسهم به أسلافنا لم يصل كله إلينا فهناك عشرات بل مئات الكتب المفقودة التي لو اطلعنا عليها لتغيرت بعض مفاهيمنا العلمية، ولديَّ مشروع سأنشره قريباً إن شاء الله يتصل بتاريخ البلاغة العربية فيه بعض الاستنباطات التي تخالف ما استقرت عليه بعض الآراء العلمية من خلال استقرائي عناوين المؤلفات المفقودة !!
* كيف تقوّم إسهامات المعاصرين في دراسة البلاغة منهجياً وعلمياً ؟ وما رأيك في مفهوم: البلاغة الجديدة ؟
- أتيحت للباحثين المعاصرين الوسائل المعينة على استحضار المعلومات بسهولة ويسر؛ ولهذا فمجال الإفادة من تراث السابقين متاح ميسر، ومن هنا يمكن أن ينطلق الباحثون إلى الإضافة على ما قدمه السابقون بما يتناسب مع بيئاتهم الاجتماعية .
ولهذا أرى أن من المنهجية العلمية المنصفة التعامل مع آراء العلماء السابقين وفق ما أرادوه في بيئاتهم، ومن الجور أن نحاكم آراء السابقين أو طرائقهم في ضوء مفهوماتنا في هذا العصر، فينبغي أن نستصحب رؤيتهم في بيئتهم حين نتعامل مع آرائهم، أو مناهجهم؛ لنكون منصفين لهم مستفيدين منهم، وأحسب هذا من ضرورات الإنصاف العلمي، وخير مثال على ذلك موقف الباحثين من طريقة السكاكي رحمه الله في التأليف البلاغي دون استصحاب البيئة التي ألف فيها كتابه، والشريحة التي استهدفها، فالسكاكي خدم بيئته التي عاش فيها وقدم لها ما يناسبها، فلنخدم نحن بيئتنا، ونقدم لها ما يناسبها دون تجريح للسكاكي وأمثاله رحمهم الله.
- أما ما يخص البلاغة الجديدة فمن حيث المبدأ أنا أشجع على مواكبة كل تخصص لبيئتيه الزمانية والمكانية، وتقديم ما يلائمهما، ولكن بالاعتماد والإفادة مما ذكره السابقون ومن ثم البناء عليه .
والذي ألحظه مما يقدم باسم البلاغة الجديدة أن جلّه يتركز في تغيير المصطلحات، فمعظم ما يقدمونه موجود عند أسلافنا بصورة أو بأخرى، فمن أبسط حقوق الأمانة العلمية الإشارة لذلك إضافة إلى الوفاء لأولئك العلماء.
* توليت مناصب إدارية متنوعة داخل الجامعة وخارجها: ما الذي أضافته إليك ؟ وما الذي أخذته منك ؟
- من توفيق الله لي أني مررت بمعظم الأعمال الجامعية إن لم يكن كلها في نطاق الوحدات العلمية أعني الكليات، فلا يوجد عمل من أعمال الكلية إلا وأتيحت لي الفرصة بتأديته سواء من الأعمال الإدارية أم من العلمية في المناصب أو اللجان، وقد أفدت من ذلك فوائد جمة في مزاولة تلك الأعمال والتعرف على الزملاء عن قرب، وهذا كله نفعني بشكل خاص حين توليت عمادة الكلية؛ مما مكنني مع كوكبة من الزملاء الأفاضل من تقديم أعمال علمية في مجالات الكلية، وإصدار عدد من المطبوعات العلمية والتعريفية، وعقد المؤتمرات والندوات في مجالات اهتمام الكلية وتخصصاتها وخدمتها لمجتمعها، ومن أمثلة ذلك:
مؤتمر الأدب في مواجهة الإرهاب، وظاهرة الضعف اللغوي في المرحلة الجامعية، وندوة الدراسات البلاغية: الواقع والمأمول، وإصدار دليل خريجي كلية اللغة العربية منذ تأسيسها، وقد تضمّن الدليل رصداً لأثر خريجي هذه الكلية في المجتمع بالأسماء والإحصاءات، وكان لهذا الإصدار صدى عميق في تواصل الكلية مع خريجيها، والالتقاء ببعضهم؛ ليتحدثوا عن ذكرياتهم في الكلية وأثر الكلية في حياتهم العلمية والعملية .
ذلك كله أكسبني خبرات متنوعة أفدت منها في جميع أمور حياتي، كما أكسبني ذلك مجموعة من الصداقات مع ثلة طيبة من الزملاء الأفاضل ما زلت أحتفظ لهم بالود وأكنّ لهم المحبة، وأخلص لهم الدعاء .
أما ما أخذه ذلك مني فالوقت والجهد والتقصير في حق أسرتي، ولكني أشعر الآن بلذة النتائج، ونسيان التعب والجهد، وبدأتُ – بعد تقاعدي – بتعويض أسرتي عما أشغلني عنها، وأرى أني الآن بفضل الله أعيش بهناء وسعادة في تفرغي لأسرتي، وذلك فضل من الله ونعمة ، وأحسب أن أسرتي راضية عني !
* الكثيرون يُشيدون بجانبين بارزين في شخصيتك: منهجيتك المنضبطة في التعامل مع الأفكار وفي إدارة الوقت، وأريحيتك مع الناس واتساع علاقاتك الاجتماعية: ما سرّ هذا التوازن ؟
هو توفيق من الله أولاً وآخراً، ثم دعوات الوالدين رحمها الله ، ثم يأتي بعد ذلك أني ألزمت نفسي بالحيادية حين أنظر في أي موضوع أو أي فكرة حتى يتحقق لي الجانب الذي يترجح من خلاله اتخاذي للرأي، وأحرص على أن يكون ذلك مصحوباً ببيان الأسباب، وهذا المنهج أسلكه في تعاملي مع الآخرين أياً كانوا، بل وأزيد في هذا الجانب أنني أضع نفسي مكان الطرف الآخر؛ لأرى مدى تأثير ما سأقوم به عليه.
وكل ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة، وحلم وتحلّم، ولا أزعم أني نجحت في ذلك كله، لكني أجزم بأني أبذل جل وسعي لتحقيقه، فما كان من توفيق فمن الله، وما كان من إخفاق فحسبي أني اجتهدتُ .
* رأست مجلس إدارة الجمعية السعودية للغة العربية، وكانت فترة ذهبية للجمعية: ماذا بقي من تلك الجهود؟ وكيف ترى حال اللغة العربية وحال أبنائها هذه الأيام ؟
- كانت الفترة التي سعدتُ فيها بخدمة الجمعية هي الفترة الثانية لها، وعملت مع كوكبة متحمسة للعمل منهم: الزملاء الأستاذ الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد، والدكتور عبد الله بن حمد العويشق، والدكتور عبد العزيز بن محمد الزير رحمه الله، وكانوا نعم الصحبة للعمل في خدمة الجمعية، فقدمنا ما استطعنا تقديمه مع وجود كثير من العوائق التي يسر الله التغلب عليها .
ولا أشك في أن الذين تولوا الجمعية بعدي بذلوا ما بوسعهم، وقدموا للجمعية ما استطاعوا، وقد لا تساعدهم الظروف أحياناً، فيقل العمل، ويأمل كل منتمٍ للجمعية أن يراها في أوج نشاطها، فلعل الله ييسر للقائمين عليها تقديم ما يأملونه وتجاوز كل عقبة تحول دون ذلك .
وأما حال اللغة العربية فتحتاج منا جميعاً إلى بذل الجهود المضاعفة لحث الناس على الالتزام بها والاعتزاز بالحديث فيها، ومساعدة من يرغب في تعلمها، والوسائل بحمد الله كثيرة، وأرى مجموعة من المؤسسات العلمية تهتم بذلك، إضافة إلى جهود عدد من المواقع والمنصات الإلكترونية في خدمة هذه اللغة تعليماً وتصويباً ونشراً وتعزيزاً في نفوس الناس .
ولعلي أشير هنا إلى نموذج رائع من الجهود يتمثل في إصدار حديث من « العربية بين يديك « ، وعنوانه: سلسلة العربية بين يدي أبنائنا، ولو كان الخيار بيدي لجعلتها ضمن مناهج التعليم العام؛ لاعتمادها على الجانب التطبيقي، والجهود الأخرى كثيرة لكنها تحتاج إلى تنسيق؛ لاختصار الجهد والوقت، وضمان الانتشار والتأثير، وأرى أن مسؤولية الأسرة مهمة جداً في هذا الجانب، فلو اعتنت كل أسرة بلغة أطفالها، وتعزيز العربية فيهم لاختصرت الطريق .
* وأنت رائد من روّاد العمل الاجتماعي: ماذا بقي في النفس من ذكريات السفر والأعمال التطوعية ؟
- يسر الله لي السفر إلى عدد من البلدان؛ مثل إندونيسيا، وأمريكا، وعدد من بلدان إفريقيا، وكانت مهمتي الأولى في تعليم اللغة العربية أو تقوية معلميها، وهذه بلا شك رسالة مهمة، فالعربية مفتاح الإسلام وعلومه، وكان لهذه الأسفار آثار إيجابية تتمثل في محبة المستفيدين من برامجنا اللغوية للمملكة العربية السعودية التي تعتني بهم، وتهتم بتعليمهم، سواء عن طريق المؤسسات الحكومية أو الخيرية أو الأعمال الفردية .
وبعد تقاعدي عملت لمدة من الزمن في جمعية البر الخيرية بالرياض نائباً للأمين العام، وأحسب أني استفدت من هذه التجربة، ويقول الزملاء الذين صحبتهم أني أفدت الجمعية، وآمل أن يكون ذلك صحيحاً، وأن يوفق الله جميع العاملين في مجال العمل الخيري لبذل الجهد، والإخلاص في العمل، فالمجال رحب والحاجة ماسة.
* حصلت على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، هل يمكن أن تحدثنا عن مناسبة هذا الاستحقاق ؟
- تشرفت بالعمل في اللجنة العلمية بالأمانة العامة للاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة، وكنت أمين اللجنة في الوقت نفسه، وهي مهمة جسيمة تتطلب المتابعة لكل الإصدارات العلمية في هذه المناسبة منذ وصولها من مؤلفها ومروراً بتحكيمها ومراجعتها، وانتهاء بطباعتها ونشرها، وبعد إتمام هذه المهمة تشرفتُ مع زملائي في اللجنة بتكريم مميز من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله بمنحنا وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وكان ذلك بتوصية ومتابعة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله حين كان أميراً لمنطقة الرياض ورئيساً للجنة العليا لهذه المناسبة، وهذا الوسام له مكانة خاصة في نفسي؛ لأنه يشعرني بإسهامي في التعريف بشيء من تاريخ وطني العزيز في هذه الحقبة الزمنية التي سيسطرها التاريخ بمداد من نور، ويبين للأجيال التالية جهود المؤسس الجليل وأبنائه الأوفياء من بعده .
* برقيات أخيرة:
* إلى الأسرة الكريمة:
شُغلتُ عنكم مدة من الزمن بسبب كثرة أعبائي العملية والعلمية، وها أنا تخففت من العملية فوقتها لكم، على أن تسمحوا للأعمال العلمية بالاستمرار، فهذه لا أستطيع عنها فكاكاً، جعلكم الله معينين لي على طاعته ورضاه، وأراني فيكم ما أُحب .
* إلى محبيك وطلابك:
غمرتموني بوفائكم، وأكرمتموني بدعواتكم، وأسعدتموني بنبلكم، فلكم مني خالص الشكر وصادق الدعاء، وأسأل الله أن يوفقكم جميعاً لطاعته ورضاه .
* إلى الأستاذ الجامعي:
عملك في البيئة الجامعية يتطلب جهداً يليق بمكانتك ومكانة الجامعة، فانظر أي موقع تضع نفسك فيه، أرشدني الله وإياك لأحسن سبيل وأقوم طريق .
* إلى جامعة الإمام:
أمضيتُ بين جنباتك خمسين عاماً منذ التحاقي طالباً بالمعهد إلى تقاعدي وأنا عميد لكلية اللغة العربية، ذكريات محفورة في الذاكرة لا تمحوها المواقف، ستظل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية صرحاً شامخاً من صروح العلم في بلدي المبارك المملكة العربية السعودية، فشكراً للقيادة الحكيمة دعمها وتشجيعها للعلم ومؤسساته وطلابه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
... ... ...
الرياض العامرة 1439/7/17هـ