ملأى السنابلِ تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ!
تواضَعَ.. فارتفع! فلا يكاد يرد اسمه في طوايا حديث عابر أمام باحث في بلاغة القرآن، أو منسوب لكليّة اللُّغة العربيّة إلاّ وقف وِقفة إكبار وإجلال؛ ليسرد ما تداعى إلى ذهنه من مواقفَ إنسانيّةٍ أو اجتماعيّةٍ أو علميّةٍ أو إداريّة، يُردِفها بدعَوات تترى! فمع ازدحام الأعمال في التدريس وعمادة الكلية، تراه في محاضرات عامّة، أو أعمال تطوُّعيّة، أو مؤتمرات وندَوات! فتُلفي مدرسةً في القيادة والتنظيم والإنجاز وطيب الشمائل، ومنح زكاة العلم بسخاء وتقديرٍ، تجسِّده العبارات والمواقف، ليس على صعيد الجامعة فحسب، بل لكلّ من يقصده، فما إن يرسِل باحث سؤالاً أو استشارة، أو أوراقًا للنظر إلاّ يفاجأ بردٍّ عاجل وافٍ عميق! ويزداد العجب حين يعرف أنه واحد من عشرات الباحثين، يستلّ جزءًا من وقت حافل!
وكثيرًا ما اقترن اسم شيخنا المحمّد بحلقة البحث والبلاغة القرآنيّة والنبويّة لطلاب الدراسات العليا، فيعطِّر محاضراته بتذكير بمنهج أهل السُّنـة في المعتقَد، لبثّ الحذر مما يعكر ذلك النقاء، ليَنثال العلم صفوًا بأفكار مبتكَرةٍ مُلهِمة، واستنباطات عميقة، تُعلي الهمم، وتنشر التنافس الشريف بأسئلة تحرّك العقول للتأمُّل، والقرائح للتذوّق، مع رحابة أُفق تجمع الأصيل بالحديث، وتغرِس منهج التذوّق مع المحاكمة والنقد، وترويه بحسن التعامل مع مصادر المعرفة المتجدِّدة؛ لتضفي طابَـعًا مميزًا من المتعة والتشوّق إلى البحث والطلب:
(حلَقَاتُ بحثٍ) طَـالما طِـرْنا لهـا
نحوَ المكاتبِ رَغـبةَ الإتْقانِ
بحثٌ بمخْطوطٍ ونِسْبةُ كَاتبٍ
وبَلاغةٌ مِنْ (سُبحةِ المَرجانِ)
في مَوقعٍ ومُحرِّكٍ أو مُنتدَى
نَسعى إليهِ بلهفَةِ الظَّمْآنِ
نقدٌ لفِكْرٍ أو إفَادةُ مَنهَـجٍ
أو نَظْرةٌ لبراعَةِ العُنوانِ
تيك المواقف ما توارت لحظة
ففصولهُا نقْشٌ على الوُجدَان!
وعن المناقشات التي يشترك فيها شيخنا الفاضل لا تسل فهي غُرّة لائحة! تصافِح مَن يحضرها عباراتٌ منصِفة حانِية، تلطِّفَ هجيرَ القلق والاضطراب المهيمِن على طالب في موقف اختبار، وتضفي ظلاًّ وارفًا من الإجلال للعلماء، والتوقير لمجلس العلم، ومن ذلك ما يوضّحه من سموِّ الغرض من المناقشة؛ فليس هو تتبُّع العيوب، بل إقالة العثَرات، وتدارُس الأخطاء؛ لذا ينبغي أن يكون الحقّ رائدَ الحوار، فحقّ الباحثِ إتاحة الفرصة له لبيان وجهة نظرِه، والتسليم بما يذكر من حقائق، وواجبه الإنصات بِنيّة بحثٍ عن الحقِّ، لا برغبة دفاعٍ عن المكتوب! وتمضي المناقشة على هذا النحو.. حوار يسوده الهدوء والرقيّ وسموّ القصد، وثراء تَحكمه منهجيّة مشرقة تتخيّر بعض الإضاءات لإفادة الباحث والحاضرين ممزوجة بقليل من الـمُلَح واللطائف؛ لتؤتيَ المناقشات أُكلَها، ويستوي غرسُ العلم على سُوقِه، ترعاه روحٌ عليَّة تهيِّئ النفس لتقبّل النقد بنفَحات إيجابيّة؛ تتلوها مآخذُ مصنَّفة مُنتقاة في ضوء الوقت المحدّد؛ ليحظى الباحث في نهاية المناقشة برصيد موثّق في هديّة لا تقدّر بثمن! أوراق (خضراء) تعبَق بالفوائد، هي حصيلة قراءة متأنية عميقة! تسطع فيها (نجومُ) اسمٍ انتُقي خَطُّه بعنايةِ خبير بلاغيّ، يوحي باهتمام بأدقّ التفاصيل، مُشربٍ بصِبغة المطابقة لمقتضى الحال؛ فكأنما رأى شيخ البلاغة في التوجيهات التي يُسديها عَرفًا منبعثًا من خميلته الفيحاء، يظلّ مع الباحث على مرّ السنين، يستلهمه طالبًا أو مناقِشًا؛ ليتّفتح نَور النماء، مؤتلِقًا بفيض العطاء!
وأحسن من نَور يفتّحه الندى
بياض العطايا في سَواد المطالب
وبمثل هذا التأصيل والإنصاف والجود ورحابة الصدر.. تنطلق رحلة الإشراف (الصاملة) بالأوراق الخضراء الأثيرة، تُستهلّ بخطابٍ رفيقٍ موجّه إلى الباحث باسمه بوصف مُشعرٍ بالتقدير والعناية، تحفّه دعوات التوفيق والسداد في ديباجته وخاتمته، يتضمّن أمورًا منهجيّة دقيقة من الإخبار بوصول خطاب الإشراف بتاريخه ورقمه، إلى تلخيص لأسلوب التواصل في عناصرَ واضحةٍ، تتغاير وَفقًا للحال والمقام بآليّة المرونة والحزم، لتأخذ بِيدِ ربّان يافعٍ ما زال في المرسى متوجّسًا مما سيواجهه من مصاعب؛ فيجد خارطة الطريق جَليَّةً آمنةً، مُرشِدةً إلى العودة إلى (القواعد المنظِّمة لكتابة الرسائل العلمية) مع تنبيهات صارمة تكسوها شَملة رقيقة من الاحترام لوجهات النظر، وتوشِّيها عبارات تقدير تبعث السكينة والطمأنينة والثقة بالن فس، على نحو قوله: «آمل النظر في الملحوظات بتأنٍّ؛ فإن كانت محل اقتناع تامّ من الباحث؛ يمكن تنفيذها، وإن كان فيها وجهة نظر علميَّة، يمكن بيانُها أو المناقشة فيها، فالملحوظات غيرُ ملزمة جميعُها»، و»لا عيب في وقوع الباحث في الخطأ، لكنّ العيب كلّ العيب في تَكراره بعد التنبيه عليه!». وتمضي الرحلة بعناية شفيقة، وفحص دقيق، وملاحظ تفتّق الفكر؛ لتنضح بإرشاد إلى مرجِع لتحرير مسألة، أو زاويةٍ تحتاج مزيدًا من الضوء، أو منهجيةٍ ينقصها فضلُ تقويم، أو تنبيهاتٍ تطرّز البحث بلون النماء؛ ليبقى ذلك الرواء بجدول التواصل وآليته ومنهجيته وتقويماته لُمعًا خالدة، يعي تفاصيلها، ويتخيّل أحداثها، ويذكر عباراتها من تتلمَذ على يديه، أو حظِي منه بإرشادٍ أو إشراف أو مناقشة!
فلا غَرو أن يمكُث في الأرض..! علمٌ هطَل بإخلاص ونقاء، ليروِّي عقول الباحثين، وينعش أرواحهم على مدى الزمان!
** **
- د. زينب بنت عبداللطيف كردي