على سبيلِ الحكاية، ثمة الكثير ليُروى عن شيخنا وأستاذنا ومعلمنا الأول: أ.د. محمد الصامل، عن أثره السامي في جيل تلو جيل، عن الكثيرين الذين يودون لو اصطفّوا أمامه كسجادة تكريم مفروشة بامتداد البصر. يضيء الأساتيذُ لك نوراً فتدرك طريق العلم، لكن قلة منهم من يضيء لك ما بين جوانبك فتدرك نفسك.. كان أستاذاً لمنهج البحث.. لكنه يعلمك منهج الحياة..!
وفي خضم التشابه، وحرص كثيرين على أن يُصدروا نسخاً منهم، أبناءهم، طلابهم، حرص هو على تنمية روح التفرّد في طلابه، أن يأخذ كلٌ منهم طريقه إلى اختلافه المحمود وأسلوبه الخاص، كأنما هو (فولتير) خاصتنا، إذ يقول: أخالف رأيك لكني مستعد لدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عنه.
يتسم بأنه عصي على التصنيف، لم يلحق موجة أي تيار، ظل له نهجه الفرداني الخاص، ولم يدخل قط في لُجج الانتماءات والتحزبات، وفي وقت مبكر وحين كان الكثير من مجايليه مشغولين بالقطيعة مع الآخر منهجياً، كان هو مشغولاً بتأسيس مفهوم مختلف لقراءة الآخر، تراه فتعجب كيف يكون هذا التراثي المُعمّم، الضليع في البلاغة، الذي يحدثك عن البلاغة والمُعتقد، والذي هو مستعد أن يوقفك في حر شمس الظهيرة ساعات طوالاً من أجل ضبط إحالة علمية، كيف يشرع كل الأبواب لأحدث منهج، ويصغي لأي رؤية جديدة، حتى لو رماه الجميع عن قوس واحدة، ويستمد هذه القوة فيما يقبل ويمنع من مبدأ له ذي أركان ثلاثة يقول في كل منها (لا مساس): التوحيد عقيدةً، والوطن وِحدةً، واللغة بياناً ناصعاً متطهراً من وعثاء الركاكة، فيما عدا ذاك فكل طرح نقدي وكل منهج تجديدي هو بابٌ محتمل للحكمة التي هي ضالة المؤمن، فبأي حق يوارب؟
وأستاذنا يؤمن بالحق الصريح إن طاب لكثيرين الإيمان بالحق المعمّى، ومن الذين يسعون لإحياء الضمير العلمي، والذين يحاورون حواراً يريدون به وجه الحق لا الانتصار. وهو صارمٌ مع نفسه قبل أن يكون صارماً مع الآخرين، لذا لم يضع نفسه يوماً موضع المضطر أن يُلقي معاذيره.
وقد يختلفون حول شدته، معياريته، عدم قبوله في الحق لومة لائم، لكنهم يتفقون على أخلاقه التي هي بسمّو الأنجم، وصدره الذي هو برحابة الدهناء.
علَّمنا دوماً أن منهجه (إذا آمنتُ بفكرة فلا يلزم ألا تتحقق إلا عن طريقي)، كي تكف الأثرة وتصبح بيئة العمل أكثر نصاعة، و(أن الإنسان مسؤول أمام الله عن قول ما يرى أنه حق، وأنه لا يلزمك أن تتحقق ما ترى أنه الحق بعد أن تؤدي واجبك في التعبير عنه) كي يكف ذاك التخاصم الذي يعطل كثيراً من الأهداف المشتركة.
تلك أحرفٌ اصطفت لتؤدي تحيةَ إجلال أصالةً عن النفس، ونيابةً عن كل من درّسهم وأشرف عليهم؛ لأن كل طالب علم يشعر بأنه تلميذه الأقرب لفرط ما يساوي بين الجميع، ويتفانى مع الجميع. ولن ندرك الشكر كله والامتنان، لكنها أشارات تحيل إلى مكانه العلوي بيننا، واستجماع لأطراف سيرته بذريعة عرفان، علّه يوماً يدوّن سيرته بقلمه فيسدي للمكتبة العلمية والإنسانية معروفاً.. إن الموقعين أدناه كُثر فتأملوا في المساحة البيضاء..!
** **
- د. منى بنت إبراهيم المديهش