الأستاذ الدكتور محمد الصامل، أو كما نعرفه ونعرِّف به: (الصامل) مع الاحتفاظ بكل الألقاب؛ فقد وجدنا من فخامة اللقب وهيبته ما يكفي أبا علي. وعندما تهمُّ بالحديث عن أبي علي فتجد ظروف الحروف -تحريريًا- تحدُّك على عدد منها فمعنى هذا أنك ستجد نفسك على ضفاف جدول صغير من نهر أستاذنا المبارك العظيم، ولكنه ليس أي جدول، بل جدول تنساب فيه مياه الحياة الرقراقة، وتتماوج على ضفافه الظلال الوارفة، وتفوح من جنباته نسائم عطر تهب من تلقاء روحه المترعة بكل جميل؛ فالكتابة عن بعض الجوانب الحسية في الرجال عرضة للنفاد، ولكنك عندما تكون بإزاء شخص مشحون بالقيم الرفيعة والمعاني العالية فأنت -ولاشك- ستكون بحضرة محيط مترامي الأطراف لا تحده ضفاف، وستكون بحضرة مواويل وأسمار من الدهشة والجمال والإبهار؛ لم نكن وحدنا -نحن تلاميذه- الذي يحسون تجاهه بمثل هذا الإحساس، بل كل من عرفه وتعامل معه، فمن ذلك ما حدثني به ذات مرة أستاذنا الكبير/ محمد بن عبده شبيلي وقد نفحتنا نسمة صيف ندية بسيرة (الصامل) فمتح تنهيدة إجلال وتقدير من أعماق روحه وقال: لِلَّه هو!!، الصامل اسم على مسمى، وأردف قائلاً: كانت تجمعنا -أيام الدراسة والزمالة- لقاءاتٌ ورحلاتٌ، فلا أذكر أن الصامل كان يترك لنا شيئاً لنعمله؛ كانت يده تسبق أيدينا في خدمة الزملاء والرفقة والصحبة، فما إن تهوي بيدك على شيء حتى تسبقك يد الصامل، فلا تكاد تدرك إلا عبارته(عنك عنك!!). ثم استرسل يتحدث عن تضحيته وإيثاره، وكريم خُلُقه وصدق لهجته بما يدهشك ويبهجك، ويملأ قلبك وروحك بكل معنى تحيا به الروح، وتنفسح به آمال الحياة الجميلة العريضة. فهذه شهادة زميل دراسة وعمل، ورفيق حرف وحِرفة.
ومضى زمن لأرى بنفسي ما قاله الأستاذ الشبيلي حاضرًا باهرًا، ولطالما وجدتني -بعدها- كلما ذكرتُ كلامه أتمثل بقول الشاعر:
كانتْ محادثةُ الرُّكبانِ تخبرُنا
عن أحمدِ بن سعيدٍ أطيبَ الخَبَرِ
حتى التقينا فلا والله ما سمعتْ
أذني بأكثرَ مما قد رأى بصري
فقد التقيته بعد ذلك لسنوات كأحسن ما تكون اللقاءات، التقيته أستاذًا لمادة البحث العلمي في مرحلة الماجستير، فتلقَّيت على يديه أصول البحث العلمي، وتحقيق التراث، فبحثتُ على يديه، وتدربتُ على التحقيق، ثم التقيته في مرحلة لاحقة مشرفًا عليَّ في مرحلة الماجستير، فأفدتُ من علمه كما أفدت من خُلُقه وتعامله، ومضت بنا السنوات لأعود مرة أخرى متلقِّيًا عليه أصول البحث البلاغي في مرحلة الدكتوراه.
وكل من دلف إلى ردهات كلية اللغة العربية بالرياض خلال الأربعين سنة الماضية يعرف الأستاذ الدكتور/ محمد الصامل، أستاذًا، ورئيسًا لقسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي، ووكيلا للكلية للدراسات العليا والبحث العلمي، فوكيلا للكلية، فعميدًا لها. وكل من جال في أروقة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عرف الدكتور محمد الصامل عضوًا في أغلب لجانها، وفي لجان مؤتمراتها وملتقياتها العلمية، وكلما طرنا بعيدًا وجدنا ذكره الطيب وسيرته العطرة تقطر شهدًا مصفَّى على ألسنة من نلتقيهم من أساتذة الجامعات والباحثين في مجال تخصصه. فهذا يذكره في مقدمة كتابه ويعدُّه من مصادره التي أفاد منها، وذاك يشير إليه في ضمن تحقيقاته، وآخر يثني على جهوده العلمية في دروسه ومحاضراته، فكان في ذلك كله ملء السمع والبصر، ولم يكن في ذلك كله محل خلاف أو اختلاف حول شخصيته أو علميته.
أدرك الصامل كوكبة مضيئة من كبار رجال العلم والفكر والبحث الذين استضافتهم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من الأقطار العربية والإسلامية أساتذة وباحثين، فأفاد منهم علمًا ومنهجَ بحث حرص على أن يضيف عليه من جهده ثم يقدمه لنا -معاشر تلاميذه- حلوًا مصفَّى، قدمه لتلاميذه الذين ينتشرون في مناطق المملكة كلها برحابة صدر وكرم نفس وإخلاص للعلم وطلابه، فآتى كل ذلك ثماره شهية جنيَّة كأحسن ما تكون الثمار، وآنق وألذ ما يكون الجنى.
أدرك أستاذنا الصامل، وأدركنا معه منعطفات مهمة مر بها وطننا فما عرفناه إلا كما رباه وطنه، وقبيلته العريقة، وأسرته الكريمة، وطنيًا صادقًا مخلصًا، ينزع في وطنيته عن معتقد صحيح صريح وولاء صادق، بدون شعارات ولا مزايدات، فولاؤه لدينه، ثم لمليكه ووطنه ثابت راسخ، هكذا كان، ولايزال، وسيظل -بإذن الله- مشعلا وطنيًا، ومنارة خير وحق وعدل وجمال، كما عرفناه، وكما هو العهد به على الدوام. قلتُ ذات لحظة: إنك ستجد -كثيرًا- أستاذًا في جامعة، ولكن يندر أن تجد جامعة في أستاذ على نحو ما وجدناه في الأستاذ الدكتور/ محمد بن علي الصامل؛ فقد كان جامعة كاملة بقيمه وأخلاقه وإنسانيته، أقولها بصدق لا تشدني إلى ذلك رغبة ولا تدفعني إليه رهبة، وأنَّى يكون ذلك وقد كنا في حصانة من ذلك بكريم خُلُقه ونحن نجلس إليه ونتحدث إليه. ألَا فلتهنأ -أستاذنا الكريم- بجهودٍ عظيمة بذلتَها، وبرجال صدقتَ معهم ونصحتَ لهم، وبأجيال تلقوا عنهم ودرسوا على أيديهم، وكلهم مثنٍ عليك، داع لك بالخير، وهذا هو الخير الممتد، والمعين الذي لا ينفد بإذن الله.
** **
- د. أحمد العقيلي