أول عتبات الدخول:
يتحدث كنهر!
ولا غرابة!
فهو ابن مدينة تغفو على ضفة نهر.
بشخصيته المثقفة الهادئة- كما هم أهل الجنوب العراقي- التي تذكرنا بشخصيات روايات القرن الثامن عشر, وما فيها من نبل ومثالية؛ يأتي حسن البحار مُعرِّفًا بنفسه: «جرم بسيط مازال يبحث عن ذاته على أرض مسطحة لا عمق فيها ولا ارتفاع»
بهذا التعريف؛ تتسع شخصية حسن البحار في أذهاننا, لتشبه كثيرا أبطال رواياته و ربما في هذا ما يفسر اختياره لمهنة لها علاقة بالبحر, وهو ابن بلاد النهر.
إنها تلك النفس التّوّاقة لكل اتساع وعمق, تلك التي ترى أنّها أكبر من حدود الزمان والمكان, ليس ادّعاء بل حقيقة .
حداثوية الصّورة عند البحار:
تميزت الصورة عند حسن البحار باقترانها بالدهشة؛ فأنت عندما تقرأ تنسى من دقة وصفه أنك تقرأ؛ لأنّك تشاهد مباشرة ,خارجا من إطار الرواية ودفتي الكتاب.
صفاء اللغة, وثروتها عند الكاتب تذكرك بما قاله ستيفن أولمان في ( الصورة في الرواية):
«إن التعبير الصادق عن الشخصية الجديدة يتطلب شكلا جديدا»
فكل شخصية عند البحار تمتلك لغتها الخاصة, حتى كأننا نسمع صوت كل شخص في الرواية, ومن منا لم تملأ روحه ضحكات «ريتا» الغنوج ومدها للكلمات؟
من منا لم يلبس السيد «سي» هيئة الروائي حسن البحار, وطريقته الهادئة في الكلام؟
لقد كانت الصورة عند البحار كما يراها أرسطو هي «آية الموهبة» .
وعلى غرار المدرسة الرومانسية سار البحار في نظم صوره, تاركا لملكاته النفسية مهمة خلق الصورة.
ولئن أطلق (أو جيست) شعاره القاضي بأن «الشعر تفكير بالصورة» إلا أن هذا الشعار يصدق على سرديات البحار الشاعر, فلئن كان الشعر يكتبه, فهو في سرده يكتب الشعر, والشعور بشاعرية فذة, تجعلنا سجناء مشاهده التي تبقى معنا لفترات طويلة بعد مغادرة نصوصه.
إن لغة الأدب ؛لغة انفعالية, والانفعال لا يمكن أن يصل بكلمة, بل لابد له من تركيب محكم ؛ليصل الشعور للمتلقي كما يشعر به الكاتب لحظة المخاض الأدبي. إن أول ما يخرج به القاريء لبحر البحار الأزرق , وقمره الأبيض؛ قدرة اللغة عنده على التفاعل بين اللامرئي , واللاوعي بطريقة حداثوية؛ ونحن عندما نقول (حداثوية) نعني بها أبعاد هذا المصطلح وما يترتب عليه من ميل إلى الاهتمام بحداثة الصورة عنده؛ فلم يأت البحار تقليديا في صوره, بل مجددا ملهما, يلعب على وتر المعنى, ويخلق له ما يشاء من الفضاءات المحلّقة.
يقول البحار في معرض حديثه عن شخصية «سي»:
«في فضاء الحلم ضعت» ص 6, وإننا لنعجب كيف يمكن لنا أن نضيع في فضاءات الحلم الذي نتوق إليه؟ فالأحلام هي ضرب من أمنيات نخلع عليها ما نشاء من دفء تطلعاتنا فكيف نضيع فيها؟!
إنه التفاعل بين اللا مرئي واللاوعي, أراد منه الكاتب أن يجعلنا نبحر في أعماق البطل, ونجول في وجدانه, لنتقمص مرحلة الضياع التي أحاطت به, حتى في أحبّ الأشياء إليه.
إنه يجعل للخرافة المنبوذة لفظا ومعنى حدائق بقوله «قرب حدائق الخرافة» ص6
وهو هنا لايُجمّل القبيح دون غاية! فما أراد أن يوصله لنا أن تلك الخرافة
كانت جميلة في عقله الباطن إلى الحد الذي جعله يخلع عليها «حدائق» لا «حديقة» واحدة, وكأن هذه الصورة المركبة في ذهنه تريد أن توصل لنا دهشته بتلك الـ«ريتا»
فريتا وكل مايحيط بها في خيالات البطل جنان من رضا , حتى مدينتها هي الأخرى «تكنس الآهات», فيتركنا أمام تلك الصورة مع متعة كنس الآهات الموجعة تاركا لنا إكمال المشهد ولكن على طريقتنا الخاصة, إذ لايدخل في تفاصيل كثيرة للصورة, بل يلقي بها في هيئة جديدة على فضاءات اللغة , ويجعل لنا حرية رسم المشهد كاملا.
لقد ألقى سحر ريتا بتأثيره على الأجواء التي اتخذت هيئة الأنثى المرتمية في حضن من تحب بسلام, فيقول عن لحظة دخوله المكان الذي فيه ريتا: «في جو يمتد بوداعة إلى أحضان الهدوء المعتدل» ص6 قد لايكون المكان كذلك ولكنه التفاعل الوجداني مع هيمنة الشعور الخادر.
البحار الوصاف المغرم بالطبيعة لاينسى أن يخلع على ريتا صفة البحر منذ بدء اللقاء بسي فيجعلها» تتموج بقوامها الرشيق» ص6 وكأنه يتنبأ بأنها ستغرقه في بحرها بعنف يجعله يغادر سواحلها بقلب مقضوم.
وعن ولعها لحظة عناقها للسيد سي, يحيل لحظة الرغبة إلى مشهد حركي مدهش «كأنها فراشة في لفظ أنفاسها تغني» ص6.
إنها الترجمة الوقتية في اللاوعي, التي تُحضّرنا للبعد الذي سيتخذه الألم عند لحظة وداعها المروعة؛ عندما أخبرته «كاذبة» بأنها ليست أرملة؛ لتحترق هي بكذبتها هذه يوم وداعه.
لقد كانت أجواء اللقاء الأول كما يقول في ص 8 «يشعل الرغبات يسكبها في آه أثقلتها قطرات من الندى» وهو بهذا الوصف يشدنا من تلابيب الدهشة؛ لنستشعر معه حلاوة ذلك الاشتعال, فيتبادر إلى أذهاننا عالم من شموع تفضي بنوره ا إلى عوالم الآه فيها شيء آخر غير الألم.
ريتا الساحرة بابتسامتها التي «تثير فضاء الأحلام» ص 8 كأنها فرس جموح تثير بحوافرها الأتربة, لكن إثارتها ليست غبارا بل اخضرارا في الروح, كيف لا وهو قد منحها لقب ملكة جمال الكون في ابتسامتها عندما قال: «يمكن أن تعد ريتا من أجمل نساء العالم فقط غي ابتسامتها» ص8
إنها أنثى شهية كفاكهة الربيع فقد «كانت ثمرة ناضجة مكتملة النمو» ص 8.
ويأتي هنا بلفظة «مكتملة النمو» وكأنه يريد أن ينفي عنها كل نقص, ولاريب فعين المحب المأخوذ بدهشة البدايات, الخارج من حمى الانكسار ؛هي التي تتحدث هنا.
وتتمادى ريتا في طرق الغواية التي ربما تفعلها دون اكتراث, لكنها تفعل فعل السحر في روح شاب خسر حبه الأول وهرب عبر البحار بحثا عن تلويحة تعيد لقلبه النبض من جديد
«اهتز السرور عندما قرصت خدي» ص 10 , القرص مؤلم ولكنه هنا جاء على هيئة تناص معنوي بالمقولة الدارجة «ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب» تلك القرصةقد أحالت السرور الصامت إلى مهتز, فبعد كل تلك المقدمات في وصف أجواء اللقاء الهائم الذي تطايرت حبات هيامه على الأجواء لتحيلها إلى نكهة عشق, ورائحة عشق, وهمسات عشق.
يجعلنا الكاتب هنا نقف أمام صورة اهتزاز السرور , لنسترفد لها المعنى الذي ينبت في أرواحنا ونحن نتمثل صورة اهتزاز الأرض بعد المطر في قوله تعالى: «وتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ»
إنها صورة للنماء النفسي, كما أن الاهتزاز هنا صورة للنماء الحسي.
فالاهتزاز حياة بعد موت, حركة بعد سكون, وكأنه ينقل لنا عن أول خطوط التغيير في روح السيد سي.
وتتمدد مساحة الرضا عند السيد سي في أول رحلات الإبحار كعادة المسافر هربا من أحزانه عندما تصافحه الحياة بوجه آخر بعيدا عن مناطق الحزن فيقول:
«مازال في هذا العالم أمل يحوم في الأجواء يحتويني بلطف» ص12 وكأن الأمل الذي فقده في مدينته, كان يهيم على وجه في عوالم أخرى.
ريتا المرأة المخلوقة من جنون الربيع, لاينفك السيد سي يخلع على أوصافها أجمل مافي الطبيعة «جلست قبالتي شبه سنبلة ص13, فينقلنا إلى أنثى كسنبلة تتمايل مع نسمات الهواء وتزداد عذوبة. إنها أنثى استثنائية تعرف بطريقة ساحرة كيف تروض بؤسه و تحوله بقدرة قادر إلى أمل يحركه الفرح في داخله, كما يقول في ص26
نحن والصورة تلك أمام حركة لاتهدأ من الانعاش النفسي, فهي تتعامل بمهارة عالية مع بؤسه الشرس الذي يفترسه مذ رحل من مدينته, ولاتكتفي بالترويض بل تغير ذلك البؤس إلى النقيض تماما منه, وتضمن له الدافع المستمر الذي يبقي على ديمومته» تحوله بقدرة قادر إلى أمل يحركه الفرح في داخلي»
عالمها المدهش الذي يفعل به مالم تفعله الأيام, ظل مُتسيّدًا معظم صفحات الرواية, فهاهو في معيتها,«منتشيًا حد الركوع في الصمت» ص32 .
نحن أمام صورة في كلمة, وصورة في تركيب؛ فاختيار لفظة الانتشاء حمّالة الأوجه لم يأتِ عفو الخاطر؛ فالنشوة وهو يمشي معها متأبطا يدها تشبه ترنحات السُّكر, كما أنها تعطينا مدلولا آخر للفرح الذي تملّك تلك النفس, كما أن هذا الانتشاء يقوده إلى الركوع في حرم الصمت, فهو لم يصمت صمتا عارضا, بل صمت عبادة لذلك الشعور حتى يسري في روحه كما يبتغي هو وكما ينبغي له.
وفي وصفه لسير العجوز التي دخلت عليه وهو مع ريتا, أعجوبة تجعلنا نتخيل المشهد خشية خدشه بكلمات تجرح صفاْ الصورة, فهي «تسير سير الدخان صوب الخارج» ص 37
هذه الصورة اختصرت التعريف بتلك العجوز التي يجهل قرابتها من ريتا, ودخولها وخروجها دون أن تنبس ببنت شفة, دخلت غريبة, وخرجت لتتبخر كدخان هارب لايريد من أحد أن يتعقبه.
وينقلنا معه البحار إلى رسم معالم الحالة النفسية من خلال صوره التي يعتني بانتقاء الألفاظ لها , وكأنه يأبى أن نقرأ له, بل يريد منا أن نشعر به ومعه , فهاهو :الرعد الذي يعوي في الخارج ص38 , متنازلا عن (هزيمه)؛ ليستعير العواء.
الرعد مرعب في كل أحواله, لكن تعمد البحار التعبير عن صوته بالعواء الذي هو في أصله للذئب فيه من الوحشة, والرعب الكثير الذي يتناسب مع صدمته ووجعه في اعتراف ريتا الكاذب.
وتتسع دائرة الألم عند السيد سي حد الخرس الذي يمثله بقوله:
«أخذت الكلمات من حلقي دفعة واحدة وظلت اللغات راقدة» ص 38
الكلام لايجدي ولن في حالة ذعر وحزن كتلك, معاجم اللغات كلها ظلت الطريق إلى حلقه.
ليلة حزينة انهار فيها كل شيء يوم مولده, ولكنها كرامة الرجل الشرقي عندما يشعر بالإهانة والخديعة من امرأة لايريد أن يفرغ عليها جام غضبه فما كان منه إلا أن أخذ يقصف الأرض بقدمه؛ ليبدد طاقة انفعاله قبل أن يغادرها ص40
الصورة هنا جاءت في لفظة مشحونة بكل دوي الغضب ورعبه.
كل هذا العذاب الذي سيعيشه كان من» قبلة واحدة رسمت في ساحاته الكبير ة المهجورة نافورة جراح « ص42
ويالدهشة الصورة هنا!
كل كلمة تصف سيرة حياة وتختصرها!
كل هذا التعلق كان من قبلة لامست روحا هاربة فارغة مهجور فيها قلبه الذي لم يتحسسه منذ أول جرح جعله ينكفئ على ذاته, هذه القبلة في مسائه الحزين تحولت إلى نافورة جراح تعيد الجرح كلما غارفي جوفه كما تفعل النوافير في إعادة ضخ مياهها تماما.
ذاكرة الحزن بعد مشهد الوداع عند البحار ذات صور موجعة, تجعلنا نتعاطف مع السيد سي فصوت البكاء يشن في داخله حربا ص 42 فهو يقاومه والبكاء يسل سيوفه التي لاترحم عليه.
هذه الحرب التي يعيشها الرجل الشرقي بينه وبين البكاء كفيلة بأن تجعل الحياة تتقلص, ليجلس قلبه على حافة الهم ص42.
لقد اتسعت جراح السيد سي لتصير بحجم خارطة عالم البحار ص43 ومن ثقافة البحار ووعيه أنه لم يجعلها بحجم خارطة العالم التي ربما تجعل أذهاننا محصورة في اليابسة بل اختار ها من عالم المياه التي تشكل ثلثي الكرة الأرضية؛ لينقل لنا صورة حجم جراحه التي تسيل بشكل مفجع, متلاطم كمياه البحار.
هذه الجراح التي جعلته يهرب بسفينة «وجهها كوجه الخائن الهارب» ص44.
هو لم يخن غير قلبه!
فقد هرب ولم ينتقم له, هرب ومازال هاربا بحبه لها, وفي هذا خيانة للجراح والكرامة, في قدر يضطره إلى أن يطبق الجراح على الجراح؛ ليرتق الفراق منشغلا بعمله ص46 تاركا قلبه» يصهل من خلفه على ساحل من أندونيسيا» ص53.
لقد اختار الصهيل في اعتزاز المجروح الذي يتحسس كرامته, ويدوس لأجلها على قلبه, متخذ هيئة خيل تصهل.
ويسدل مشهد الجرح على رجل يقف بكل انكساره الشامخ ,قدره «أن يشير دائما إلى المرافئ مودعا» ص 42.
يسدل الستار, لينتقم الكاتب للسيد سي في الجزء الثاني من الرواية, ذلك الجزء الذي ننتظره جميعًا لنتعرف على مافعله الحزن, والجرح بشخصية السيد «سي».
إنّ الحديث عن حداثوية الصورة عند حسن البحار, حديث لايمل, ولايمكن أن تستوعبه هذه العُجَالة.
حداثوية الصورة عنده ظاهرة تستحق الدراسة النقدية؛ إنها بحاجة إلى عمل علمي ضخم يعطي ذلك الجمال حقه في الظهور.
وماأنا هنا إلا كواضع علامات على الطريق؛ ليهتدي بها المارة, عل باحث نهم مجيد يتوسع في هذه الفكرة, ليعممها على كل نتاج حسن البحار الروائي, لأن هذا الرجل ظاهرة روائية تستحق أن تُخلّد في رسالة علمية.
** **
- د. زكية بنت محمد العتيبي