في قاموس الأكاديمية الملكية الإسبانية مفردة تثير الانتباه لا من جهة أصلها العربي فحسب، بل لما فيها من أبعاد دلالية غاية في السلبية والإقصاء. وردت مفردة «Algarabia» في القاموس المشار إليه بعدة معانٍ: «صياح مرتبك من عدة أشخاص يتحدثون في الوقت ذاته»، «لغة بذيئة أو مبهمة»، «تشابك وتداخل»، وأصل لفظها وفق القاموس هو «العربية»، ما يعني صلتها بالعرب في سياق من الذم والتهوين والتشهير، ثم اتخذت صفة العموم لتشمل الكلام غير المفهوم الصاخب المزعج، والمرتبط بالفوضى وقلة التهذيب والدونية. والغالب على الظن أن هذه الدلالة تشكلت في زمن التقوض الحضاري الأندلسي، فيما عرف بالمرحلة الموريسكية بعد أن انقبضت العربية الأندلسية وأضحى تداولها نشازًا وحرجًا وشبهة، وانحسرت في مجموعات صغيرة لم يكن من الصعوبة وصفها بالغرابة والسذاجة.
وهناك ملمح حري بالتوقف وراء هذا كله، وهو أن إسبانيا الكاثوليكية في ذلك الحين انتهجت سياسة الأحادية الدينية والثقافية، وجعلت من أي تمايز واختلاف تعلة للقمع وعذرًا للتعقب، ونتيجة لذلك انكمش حضور اللغات المرتبطة بالأقليات العرقية والمكونات المهمشة، كما هو حال الموريسكيين والغجر على سبيل المثال. وهي السياسة ذاتها التي ارتكنت إليها إسبانيا في مستعمراتها جنوب القارة الأمريكية، حيث حلت اللغة الإسبانية محل اللغات الأصلية بقوة السيف لا بطبيعة التحول الثقافي الذي حصل في الأندلس كما شهد به قدماء الإيبيريين أنفسهم.
مع مرور الزمن تلاشت الأمة الموريسكية تمامًا في المجتمع الإسباني، لكن العبارة السالفة خلدت شاهدة على الهيئة التي تسوء بها حضارة ما بمجرد اندحارها سياسيًا مهما كانت عراقتها. والسؤال الحاضر هنا: هل في طبيعة العربية ما يجعلها تبدو نوعًا من الجلبة أو ضربًا من الضجيج؟ وهل يمكن أن توصف لغة ما أصلًا بأنها متوحشة أو متحضرة تبعًا لأسلوب نطقها ونبرة الصوت فيها وما إلى ذلك؟
ومع الإيمان جدلًا بهذه الفرضية، فإن هناك دراسات ربطت بين العربية والإسبانية في خصائص معينة وظواهر محددة، ومن يرعي سمعه اليوم للغة الإسبانية يجدها تنزع للجلبة ورفع الصوت، وهو ما يوافق الطبيعة المتوسطية الحارة في العموم، ولو مررت بحشد من الإسبان في بلد أوروبي لوجدت لحديثهم صخبًا وحدّة، ولعل في واقعة المرأة الإسبانية التي سحلتها امرأتان إنجليزيتان في إنكلترا منذ مدة قريبة بسبب حديثها بالهاتف بلغتها الأم، ما يبدو مؤشرًا على تأثير الأداء الصوتي في سلوك المرأتين، وإن كانت العنصرية وحدها سببًا كافيًا لأي ممارسة عدائية تجاه المختلف في الغالب. وعودًا على بدء، فقد يتصور البعض أن الدارجة الأندلسية صورة عن المغربية الحالية التي يرى فيها كثير من العرب جلافة وصعوبة. وقبل الخوض في هذا، يحسن القول بأن وصف لغة أو لهجة ما بالغرابة ليس موضوعيًا بتاتًا، فإن الأمر لا يعدو أن يكون من قبيل الألفة والنفرة، أو مرده القبول المسبق المتعلق بالثقافة نفسها، وإلا فما الذي يجعل اللهجة المصرية اليوم الأولى عربيًا لولا ألفتنا القديمة لمسلسلاتها وأفلامها وقبولنا الأكيد قبل ذلك للروح المصرية الخفيفة؟ وانظر إلى اللهجة الخليجية قبل ثلاثين سنة وقارنها بواقعها العربي الآن؛ فالمسألة حضور وقبول، وليس لأمر في اللهجة ذاتها. وعلى ما سبق، بغض النظر عن أن الدارجة الأندلسية منفردة حقًا بخصائص عن نظيراتها العربية، يظل من المنطق القول إن انكماشها الحضاري في الحقبة التالية لاضمحلال الأندلس كان كفيلًا بإلصاق هذه الصفة القادحة بها، وذلك شأن التاريخ يسرع معه تهوين المغلوب وتجريم المنكسر. ومهما حاول المؤتمرون اليوم وأصحاب المبادرات والمعاهد والمراكز انتشال العربية وإعادتها للواجهة، فجهودهم أشبه بصرخة في واد؛ فالعربية اليوم ما زالت لغة مدحورة حضاريًا، وجل ما تقوم به تلك الجهات نقاشات فارغة عن مستقبل العربية، وضرورة تعريب المصطلحات الأجنبية، أو ترسيخ ممل لعبقرية «قل ولا تقل»، أو إعادة أسطوانة المؤامرة الخارجية، أو الهجوم الكاسح على العامية المسكينة. وستظل العربية (قارابيّا) في غربتها وهوانها حتى على أهلها في محيط تغيب فيه الإرادة العليا قبل أي شيء آخر.
** **
- صالح عيظة الزهراني