ظلت مسألة الذات شائكة منذ عصر النهضة مروراً بعصر التنوير كفلسفة وجودية اختلف عليها كثير من العلماء الأوربيين ككانط وشوبنهاور وديكارت ولوك وغيرهم ولكن في العالم الثاني أو الثالث كما يسميه علي شريعتي أخذت تستمد روحها من الغرب دون إثارة أبحاث ودراسات فلسفية ملفتة فكان شريعتي في طليعة الذين أرادوا الانفصال في هذا عن الغرب وإن كان أحد طلاب السوربون إلا أن الروح الشرقية تجمح إلى الاستقلالية محاولاً أن يرتقي بالمعرفة والمثالية والوعي الاجتماعي كنهضة فعلية للشعوب المتأخرة! وهو مشوار أكمله بعد عودته من فرنسا! وفي هذا السياق يقول: (لا ينبغي علينا أن نقبل كل ما يفعله الأوروبيون أو ما يقولونه، ينبغي علينا أن نفكر بأنفسنا ويكون لدينا الاستقلال في مواجهتهم)، وهذه رسالة واضحة للناسخين!
لذلك لم يكن شريعتي يوماً ساذجاً لتتملقه السلطة ويتملقها فكان سجن الشاه ينتظره كثيراً على الرحب والسعة وليس ذلك فحسب بل حتى رجال الدين لم يكن عندهم ذو حظوة ومكانة فكانوا يكرهونه أشد الكره لأنه لا ينفك في نزاع معهم في أمور العقيدة والأيديولوجيات الدينية فكان ندّاً لهم في محاضراته ودروسه! وفلسفته في العودة إلى الذات إنما هو رجوع إلى قرارة النفس وواقعها إلى الحرية الذاتية التي تبني الإنسان بناءً متكاملاً صحيحاً بعيداً عن أيدي الصناع غير المهرة التي تبتغي المال والجاه وبعيداً أيضاً عن التقليد الأعمى الذي استمرأ عليه أهل الشرق!
الذات التي تعود الإنسان حين يضيق به الفضاء وتنقطع به السبل أن يلجأ إلى فطرته التي لم يشوبها الأفكار الدخيلة التي تجعله يرضخ للعبودية المطلقة ويخنع للدكتاتورية دون رأي واقعي يتحيز له يكون من اختياره كصانع للتاريخ وليس العكس ذلك ما تبناه شريعتي حين أطرح الشعوبية جانباً وإن كان الفرس يدينون بها دائماً ولو أني أرى في ثنايا كلامه بعض ذلك كوصفه للخلافة بالبيئة السوداء الظالمة كظروف روحية اجتماعية وهو بخلاف ما وجدنا في العصر العباسي الأول من حركة دؤوبة ومجتمع متحضر بأنساق ثقافية ولكنه يظل يرفض القوميّة كمتعصب لها وكذلك الطائفية فتجرد من كل ذلك في سبيل أن يخلق جيلاً واعياً يكون نواة لأجيال تستطيع أن تنافس الغرب الذي يمنّ علينا بفكره وعلمه هكذا يرى دون أن يكون غرضاً من الدنيا هدفاً له يريد الوصول إليه لذلك يقول في وصيته (لم أكتب كلمة واحدة لصالح الأراذل ولم أكتب جملة واحدة من أجل منفعة حرام، لقد استخدمت قلمي لنقل أفكاري إلى الناس وخدمتهم) وأياً كانت تلك الأفكار الذي أيدها البعض وعارضها الآخر فقد كانت تلك الرؤى مبعث للثورة الإيرانية حين أطلق محاضراته من حسينية أرشاد من قلب طهران وكأنها إعلان مسبق لثورة ناعمة مهدت فيما بعد سنة 1979م للثورة الجامحة على نظام الشاه ومع أن له الفضل في إذكاء روح وعقلية الشباب ومباركة أصحاب الثورة في ذلك إلا أن سرعان ما انقلب السحر على الساحر فعادت تلك الأفكار التي تنادي بالحرية والديمقراطية على النظام الجديد بالويل والثبور وذلك لأن النظام الجديد لا يُحسن أن يتعامل مع الأفكار النيّرة حيث إن النظام الشمولي الواحد والقمع المدني المستمر للحريات الثقافية والفكرية كانتا نقيض تلك الأفكار وضدها لذلك قال محمود الطالقاني أحد رجالات الثورة (كل يوم كنّا نشهد معركة ضد شريعتي في أحد أحياء العاصمة)
لا شك أن من يقرأ لعلي شريعتي يراه خليطاً من كل أطياف الحداثة وأيديولوجياتها والكل قد يراه محسوباً على هذا وذاك ولكن الحقيقة أنه ضمن الشخصيات التي توجت الوعي الفكري وإعمال العقل كسلاح لمواجهة تحديات الجهل والطغيان.
** **
- زياد بن حمد السبيت