أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
أبو علي، وما أبو علي؟
رجل نبيلٌ نقيٌّ في زمن شَغَفته المادة، وشَعَفته المصالح الشخصية.
أستاذ جامعي عرف للتخصص قيمته وخطرَه، فانطلق في شعابه باحثًا متقصّيًا، فتهدّى إلى إنجاز أبحاث دمّثتْ السبيل لغيره إلى فِكَر أخرى، فكان نعم الباذر لمن حصدوا زرعه، وكان أنبلَ ما في نُبله أنْ لم يقل: (موضوع فلان مني، وفكرة فلان مستلّة من بحثي)، وهذا ما لا يستطيع أكثرُنا - لو بلغناه- إلا أن يبوح به.
محمد الصامل، ومن محمد الصامل؟
الخلق القويم يمشي على قدمين، واللطف والنُّبل وما شئت من ضروب التفرّد في الشمائل المُثلى والخلائق الطّولى، لا يلقاك إلا هاشًّا، ويبادرك بالسلام والتحية، ويغمرُك من اللهفة والشوق الظاهرَين على قسمات وجهه ما يجعلُك تقولُ: (أأنا أقربُ الناسِ إليه!) وتلك خصلة في الناس عزيزة، فما منا إلا من يتمعّر وجهُه إن لقي ثقيلًا، أو مرّ بقربه من لا يحبّ، أما أبو عليّ ففرد في هذا المسلك:
أَخٌ لك لا تراهُ الدَّهْرَ إلّا
على العِلَّاتِ بَسَّامًا جَوَادا
أَخٌ لك ما مودَّتُه ِبمذْقٍ
إذا ما عادَ فقرُ أخيه عادا
مِرارًا لا أعودُ إليهِ إلّا
تَبَسَّمَ ضاحكًا وثنَى الوِسادا
عرفه منسوبو كلية اللغة العربية بالرياض أستاذًا، ووكيلًا للكلية، ورئيسًا لقسم البلاغة والنقد، وعميدًا للكلية، وعضوًا في مجالس علمية ولجان شتى، فلم يروا فيه إلا الحرصَ على المصلحة العامة، والحلمَ والأناةَ - وهاتان خصلتان يحبُّهما الله ورسوله- وحُسنَ التصرّف في الأحداث، واستيعابًا للأنظمة، وعملًا بها، ومرونةً في إعمالها، إن قَبِلت المرونة. فكانوا له ما بين شاكر حامدٍ لفضله، وعاذرٍ فاهمٍ لأسباب ما يرتضيه. وندّت جماعة لا ترضى رَضِيّا، ولا تحمدُ ولِيّا: (ونصفُ الموظفين أعداءٌ لمن وليَ الأحكام، هذا إن عدلْ)، وهذا المقوّس طَرَفاه كان بيتًا لابن الوردي فهدمتُه ونثرتُه، ومن المأثور عن القصيبي، رحمه الله- وأنقله بمعناه لا بلفظه-: (الإداريُّ الناجح لا بدّ من أن يكتسب أصدقاءَ وخصومًا)، ولكنْ تأمّل خصوم الإداري قبل أن تحكم، فقد يكون الخللُ فيه لا فيهم، أما أبو علي فحامدوه وأصدقاؤه من قبلُ ومن بعدُ من أصحاب الوزن الثقيل خلُقًا وفضلًا، وقد يُفهَم من هذا مدحي لنفسي، ولا مانع، فاعتدّوها بعض ذنوبي.
كان محمد الصامل يتلقى المشكلات الإدارية بوجه طلْق، وروحٍ سمْحة، وكأنه يتلقّى البشائر، ويعامل كلَّ مرؤوسيه بما يليق بكلِّ واحدٍ منهم، فيعامل هذا معاملة الأخ الشفيق، وذلك كالوالد الحدِب، وما بين هذا وذاك ضروبٌ من كرم النفس يحفظ بها نواميس التخالُق العليّ.
وخيرُ ما عرفتُه فيه أنه على ما وصَفَ ابنُ المقفّع أخًا له، إذ قال: «وإني مخبرُك عن أخٍ لي، كان من أعظمِ الناسِ في عيني، وكان رأسُ ما أعظمَه في عيني صغرَ الدنيا في عينه، كان لا يتشكّى، ولا يتشهّى، ولا يتضجّرُ، ولا يتبرّم، وكان خيرَ ما يكونُ حين لا تظنُّ نفسٌ بنفسٍ خيرًا). لكأنما كان يصفُ أبا علي!
جمعتني الأيام بأبي عليّ في مجلسين علميين، مجلسِ الكلية (1426-1428)، ومجلسِ إدارة الجمعية العلمية السعودية للغة العربية (1426-1429) فصحبته في الأول سنتين وفي الثاني ثلاثًا.
كان في الأول مرؤوسًا، ولكنه بقي رأسًا بعلمه وتعليقه الحصيف، وأناته، ومعرفته بالأنظمة واللوائح.
وفي الثاني كان رئيسًا رأسًا، ولكنه لم يُشعِرْ من معه إلا أنه أصغرهم وأقلّهم شأنًا. والعظيم من يُشعِرُك بأنك عظيم، وطابت صحبتي له بصحبة اثنين آخرين في المجلس المصغّر الذي كان يجتمع مرارًا، أذكرهما لفضلهما ونُبلهما، عبدالله العويشق حفظه الله، والفقيد النبيل الكريم عبدالعزيز الزير رحمه الله. فكانت صحبتي لهم –وأنا أصغرُهم وأقلُّهم خبرةً وعلمًا، وأكثرهم ضجيجًا وحماسةً غيرَ مطنَّبة –أي غير مشدودة بأطناب تحكمُها، فهي كبيت تخفق فيه الأرواح كخيمة ميسون- كانت ذخيرة لي، فهم مدرسةُ علمٍ ونُبلٍ وخُلُق وحماسة للعربية، تعلمتُ فيها ما لا أُحسن، فجزاهم الله عني خير ما جزى رجلًا ناضجًا أخذ بيد شابّ طرير.
وبقيتْ بعدُ خصال ومُذاكَرات يحسُن إيرادها، منها أن لأبي عليّ نفَسًا في البحث طريفًا، فهو أولُ من شقّ السبيلَ لدرس البلاغة عند علماء السنة، على ما أعلم، فكان كتابه (مدخلٌ إلى بلاغة أهل السنة) رفدًا وجِلاءً، وجهدًا علميًّا رفيع القدر، وربما وجدتَ من يخالفه في بعض ما ذهب إليه، ولكنه - إن أنصف- لن يعدو حَمْدَه على التهدّي إلى الفكرة، وتَدْمِيثِ السبيل إليها، وحسنِ التعبير عنها، والوفاءِ بجداولها الفوارعِ عن نهرِها الثرّار.
ولأن الشيء يُذكّركَ الشيءَ، أقول: لما قرأتُ كتابه هذا، وكنتُ يفَعًا غُرانِقًا، أتردّى ثيابَ الصِّبا، وأتهادى بعنفوانِ الشبيبة، وأُدِلُّ بنَشْطةٍ وعزيمة، ولكن:
أوّاهُ لو علِمَ الشبا...بُ وآهِ لو قَدَرَ المشيبُ
لما قرأتُه كتبتُ خطابَ شكر وتقدير له ولكتابه، وأودعتُه ملحوظاتٍ بدتْ لي على مواضع قدّرتُ أنها تصلح للمراجعة مضمونًا وأسلوبًا، ووضعتُه في صندوقه في قسم البلاغة، ثم تجنبتُ أن ألقاه؛ خاشيًا أن يبادرني بعتَبٍ من نوع (ما لك داعي)، أو من قبيل: (من أنت؟)، ولكنه فاجأني يومًا مناديًا في بعض أسياب الكلية –والأسياب لفظ فصيح مليح- : يا عبدالله، فالتفتُّ إليه وأنا أرمّم كلمات اعتذار كنتُ بدأتُ ببنائها منذ كتبتُ ما كتبت، ولكنه ضمّني ضمّه -ولولا فداحةُ دلالة التضمين لقلت (فليتني متُّ ثمّه)، وأعوذ بالله من أن أفدَحَ أو أن أُفدَح- وضحك وبَشّ، واهتزّ وهشّ، وأجزل ليَ الشكرَ، وبالغ في حَمْدِ كتابتي، ومدح (حذقي) في بيان الملحوظات، ووعدني أن يأخذ بها، وظننتُ ذلك هشيمًا تذروه الرياح. ولما دارت الأيامُ وظهرت الطبعة الثانية من كتابه، وجدته حاشرًا اسميَ في زمرة الذين شكرهم في مقدمتها على ما أسدوا إليه من ملحوظات على الطبعة الأولى.
وأعرف أن أبا علي هو الذي نبّه إلى الخطأ في نسبة القول المشهور: «إني رأيتُ أنه لا يؤلّف أحدٌ في يومه كتابًا، إلا قال من غدِه: لو قلتُ كذا لكان أحسن، ولو جعلتُ كذا مكان كذا لكان يُستحسَن، وذلك من أعظم العبَر، وهو دليلُ استيلاء النقصِ على جُملة البشر»= فهو منسوبٌ عند الأكثرين إلى العماد الأصفهاني- وأظنِنْ به أن يقول ذلك!-، ولكنّ محمدًا الصامل حقّق نسبته إلى القاضي الفاضل.
وله أيضًا مباحث لطيفة في علم البلاغة يعرفها المختصون، ويقدُرونها حقَّ قدرها، ولعل غيري من محبّيه يبسط فيها القول.
وبعد أن انتهت مدة عمادته للكلية عام 1433هـ سعى قسم الأدب محتفيًا به محتفلًا في لقاء أخوي في بعض مُتَطَرّحات الرياض واستراحاتها، وكان أن طلبَ إليّ رئيسُ القسمِ إبان ذلك الأخ الأغرّ البَرُّ الحفيُّ الوفيّ الدكتور محمد القسومي أن أنشئ قصيدة لهذه المناسبة، فوعدته خيرًا، واستجبتُ –وكانت أولى استجاباتي لإنشاء قصيدةِ مناسبة- فجاءت لائقةً بالاحتفاء، ولكنها لم تعبّر عن كلّ المكنونات، ولم يكن الدافعُ للاستجابة سوى الكُرمَى لأبي عليّ المحتفى به، والتحرّجِ من ردّ طلب أبي أمين القسومي الذي يُقال لمثله: (إشارتُك حكم وطلبُك غُنْم).
وبعد، فهذه كلمة حقّ مُرّة، وحنظلةُ الحقّ أحلى في فمي من عسلِ الباطل:
إذا بلغ أستاذ الجامعة الستين ممتَّعًا بقواه، مؤدّيًا لواجباته العلمية، ولم يؤثرْ عنه قصور أو تقصير، ولم يتورّط بمخالفات إدارية ولا علمية ولا نظامية، ولم يُعرف عنه إلا صدقُ الانتماء إلى دينه، وحبُّ وطنه، والولاءُ الحقُّ لولاة أمره، ثم أنهتْ جامعتُه عقدَه إنهاءً مُجَمْجَمَ الأسباب، متلجلجَ العِلّات، ففي نظام التعاقد عند الجامعة خلل.
وأبو علي أستاذٌ ملء السمع والبصر، أشهد بالله – على ما أسلفت، وفي هذا تكرارٌ بلاغي يلائمُ تخصصَ أبي عليّ، لأنه من مطابقةِ الكلامِ لمقتضى الحال، وعسى أن أكونَ بليغًا لا مُتبالغًا- أشهدُ أنه كان من خيرةِ الأساتيذِ علمًا وجِدًّا، وحرصًا على المصالحِ العامةِ، ونفعًا للطلابِ والطالباتِ في كلّ المراحلِ التي درّس فيها، ثم إن خبراتِه العلميةَ والإداريةَ، وعلاقاتِه بالمؤسساتِ التعليمية والتربوية والخيرية وغيرها ذخيرةٌ للجامعة أيُّ ذخيرةٍ لو أحسنتْ إلى نفسها لا إليه، فهو في غِنى عن عَقد لم يُبعِد الدكتورُ حمزة المزيني، وفقه الله، عن الحقيقة إذْ وصفه بالعَقد المُهين، ولم يتجاوز الصوابَ حين نعتَه بأنه (عقد إذعان) يَسلُبُ أستاذَ الجامعة بعضَ مكانتِه العلمية وقيمتِه المعنوية، ولذلك ما تقاطرَ كوكبةٌ من أساتذة الجامعاتِ على المغادرة، وقد حملوا كرامتَهم على ظهورهم، وحفظوا ماءَ وجوههم من أن يُراقَ على مذابحِ النظُمِ الغرائبِ، والداهيةُ النّآدُ في الأمرِ أنه لا يُعمَل ببعض شروط التعاقد المجحفة مع غير السعوديين! أثَمّ عجَبٌ أتعسُ من هذا؟ اللهم هيّئ لجامعاتنا أمرَ رُشدٍ.
أقول: إن تفريطَ بعض الجامعات بأساتذتها بتلك العقود المُهينة، ورفضَها تجديدَ عقود بعضهم لأسبابٍ مطويّةٍ يُؤْبَى ذكرُها صراحةً = إنه لانحدارٌ وتدحرجٌ في هُوًى، وتفريطٌ بقدراتٍ وخِبراتٍ وذخائرَ تمشي على الأرض، وأبو عليّ محمد الصامل على رأسِ هؤلاء المفرّطِ بهم، والله المستعان.
أجزل الله لمحمد بن علي الصامل –هكذا أذكره بلا لقب أستاذ دكتور، ولا بروفسور، لأنه أبقى من اللقبِ وأنقى- أجزل له شآبيبَ الخيرِ والسعْد حيثما حلّ، ورزقه من العمرِ المديد، والصحةِ والحيوية ما يعينُه على إكمال مشروعاته العلمية، وأبقاه لمحبيه ممتّعًا بقواه، وإنه لحقيقٌ بهذا الوصف، وإن قلتُه في غيره:
سامٍ عن اللؤمِ، صِدّيقٌ وما صدقوا
عبّارُ جسرٍ إلى العَلْيا، وما عبروا
أكادُ أرفـعُه، وهْـو الرفيـعُ، إلى
دنـياً من الـنورِ، لولا أنه بشرُ
... ... ...
الرياض في 21 من جمادى الآخرة 1439هـ