قاسم حول
بكى مدير الأرشيف السينمائي في ألمانيا عندما أعلن عن استكمال تحويل كل الأفلام السينمائية والجرائد السينمائية المصورة إلى فورمات رقمية، كمن ودع صديقاً حنوناً وفياً وجميلاً. لا يدري أين يدفن رفاة ذلك الصديق وأين يبني غرفة للوليد الجديد؟!
الأفلام السينمائية «السليلويد» تحتل مساحات شاسعة من المكان وتحتاج إلى شروط حياة ووسائل ترميم مليارات الكوادر الفلمية السليلويدية تعمل فيها طواقم من السيدات الحسناوات اللواتي يتمتعن بصبر النساء في عملية الرتوش والتجميل. هذه المساحات الشاسعة ضاقت بها مدينة السينما الأمريكية وشركاتها «مترو غولدين ماير، فوكس القرن العشرين، كولومبيا، يونايتد أرتست، وارنر بروذرز ..» والسينما الأمريكية برمتها صارت تنتج وتصور بكاميرات رقمية متطورة وبقيت كاميرا السينما تنظر بحزن إلى الواقع، حيث لا أحد يتعامل معها. فعرضت شركة «سوني» التي تمتع بذكاء العنصر الأصفر، عرضاً مغرياً إلى شركات الإنتاج في مدينة السينما - هوليوود، لشراء النسخ السالبة والوسطية الموجبة والسالبة لامتلاك حقوقها. وبالفعل فقد تمت الصفقة. وصارت كل قنوات العالم الفضائية تعرض الأفلام الأمريكية في العصور الذهبية للسينما بحقوق العرض والملكية، من اليابان وليس من هوليوود أمريكا. ذلك يؤثّر على العملية الاقتصادية وميزان المراجعة لأمريكا واليابان، فتجارة الأفلام في أوربا هي سلع يحسب لأثمانها حساباً ..!
لذلك بكى مدير المكتبة الأرشيفية في ألمانيا فهو يخاف من التقنية الحديثة التي ستحوي ملايين الأفلام السينمائية، لكن كل صور ولقطات وموسيقى وأصوات الأفلام السينمائية على الحواسيب الحديثة وقطع الذاكرة إنما هي مجموعة من المعلومات الرقمية تتحول بكبسة على زر صغير إلى صور ومشاهد أفلام وموسيقى ومؤثّرات. ولكن لا توجد في هذه المادة الصلبة صورة يمكن أن يراها الإنسان بالعين المجردة حالما ينظر إلى شريط السينما السالب وبشكل أوضح الموجب!
هذه الذاكرة السينمائية والرقمية تبعثرت في المنطقة العربية، فالحلول الأوربية حلول فنية تجارية واقتصادية، ولكن الأفلام لما تزل موجودة ولها حلول دائمة، أما الأرشيف السينمائي العربي فإنه وبسبب الحروب والبلدان الضائعة والتائهة بسفنها في لجة الأمواج المتلاطمة فإن الأفلام كثيراً ما ترى تحت الأنقاض. أو في السراديب في ظروف طقسية ومناخية صعبة وغير نظامية!
الأفلام المصرية .. الأفلام الليبية وأكثرها جرائد سينمائية مصورة . الأفلام العراقية وهي خطيرة وغاية في الأهمية. في لبنان، في سوريا وفي فلسطين وهي الأخرى خطيرة وغاية في الأهمية.. الأرشيف السينمائي غير نظامي في الحفظ، ومثلما أنقذت اليونسكو معبد أبي سمبل عام 1960 على أثر بناء السد العالي في مصر، فإنها قلقة الآن على ذاكرة من نوع مختلف وهي الذاكرة السينمائية. حقيقة الأمر أن المنظمة العربية للثقافة والعلوم هي المسؤولة الآن عن إنقاذ الأرشيف السينمائي، وهي التي ينبغي أن تتعامل مع منظمة اليونسكو للتنسيق من أجل إنقاذ الأفلام السينمائية.
إن الأرشيف السينمائي العربي هو ذاكرة التاريخ وذاكرة الإنسان ومن خلاله نعرف الماضي الذي كثيراً ما أندثر تحت الأنقاض وكثيراً ما جرفت السيول والفيضانات تلك الذاكرة.
ينبغي إعداد دراسة علمية من قبل الخبراء ووضع الخطوط الأساسية للذاكرة العربية. وهذا الأمر يتطلب رعاية حضارية. وهذه الرعاية تحتاج إلى مال سواء في عقد لقاء ومؤتمر لخبراء الأرشفة والأرشفة الفلمية على وجه الخصوص، أو ببناء الأرشيف المركزي العربي في الاحتفاظ بنسخ من هذه الأشرطة، على غرار ما عملته اليابان بالأرشيف السينمائي الأمريكي. ينبغي إعداد مكان تاريخي بحماية الأمم المتحدة كمعلم لا تصيبه نيران الحروب المشتعلة. وإلى جانب الأرشيف السينمائي السليلويدي، ينبغي إعداد مكان للأرشفة الرقمية.. البلدان الثرية عليها التنسيق مع المنظمة العربية للعلوم والثقافة لحفظ الأرشيف السينمائي الفلمي والرقمي ووضع شروط وقوانين لهذا الأرشيف يتعلق بحقوق الملكية وحقوق الأرشفة.
خطرت على بالي فكرة .. مجرد فكرة .. والمملكة باشرت بتأسيس الثقافة السينمائية على مستوى التلقي والمشاهدة، متمثلة ببناء صالات السينما الحديثة، وهي متوجهة بالتأكيد لرعاية الإنتاج السينمائي بشقيه الروائي والوثائقي .. ماذا لو بادرت بتأسيس الذاكرة العربية بصرياً وسينمائيا؟