استبشر كافة السعوديين بتفضل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- بوضع حجر الأساس، وإعلان انطلاق المرحلة الأولى من أعمال البناء والتشييد في مشروع منطقة القديّة الثقافية والترفيهية والرياضية الأضخم على مستوى العالم عند اكتمال جميع مراحله.
وكان قد سبق ذلك الإعلان عن باقات متنوعة من الهدايا زفّتها إليهم الإرادة الملكية السامية من خادم الحرمين الشريفين، وابنه فارس المستقبل الجديد سمو ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ورئيس مجلس صندوق الاستثمارات العامة الأمير الشاب محمد بن سلمان بن عبدالعزيز.
هذه الهدايا تمثلت في إشهار وطرح العديد من المشروعات الاستثنائية العملاقة في وحول عدد من المدن السعودية في الوسط والغرب والشمال والجنوب، ودعوة كبريات الشركات العالمية من مختلف الأصقاع، واجتذاب رؤوس الأموال من أرجاء العالم للمشاركة فيها.. تخطيطًا، واستثمارًا، وإنشاءًا وتنفيذًا، ومن هذه المشاريع:
(مدينة القدية الثقافية والترفيهية)، (مبادرة منطقة نيوم)، (مشروع البحر الأحمر)، (مشروع الطائف الجديد)، (مشروع داون تاون جدة)، (مشروع الفيصلية)، (مشروع بوابة الدرعية)، (مشروع رؤى الحرم المكي)، (مشروع رؤى المدينة المنورة)، (هيئة تطوير العلا)، (هيئة تطوير منطقة عسير)، وغيرها من حزم المشاريع القادمة، والتي أعلن سمو الأمير محمد بن سلمان، أن هناك المزيد منها لتشمل بقية مناطق المملكة.
وهنا لست بصدد الحديث عن تفاصيل كل مشروع على حدة، ومنافعه الكبرى وعائداته الضخمة لزيادة قيمة الناتج المحلي لاقتصادنا الوطني، فهي في مجملها تشكل فرصًا استثمارية كبرى في مجالات الصناعة، والتقنية، والثقافة، والسياحة، والإعلام والترفيه، وتؤسس لحالة فريدة من الأعمال المستدامة. بل أن بعضاً من هذه المشاريع وللتدليل على ضخامتها، أن عددًا من كبار المستثمرين الدوليين والصناديق العالمية صنفوها بأنها تعتبر مشاريع «خارج التصنيف»، خاصة تلك التي سيكون المستثمر الرئيس فيها (صندوق الاستثمارات العامة)، وهو الذراع الاستثماري للدولة والصندوق الذي يتولى رئاسة مجلس إدارته سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله.
إن مشروعات بهذه الضخامة والاتساع والتنوع، من المؤكد أن من ضمن استراتيجياتها هو الاهتمام بالعنصر البشري الوطني والإستثمار فيه، عبر خلق وإيجاد الآلاف من الفرص الوظيفية للشباب السعودي للعمل في مختلف قطاعاتها وجنباتها.
وعن هذه الجزئية التي أعني بها الاستثمار في القطاع البشري السعودي، أستعيد ما سبق أن عبر عنه بتلقائية محببة سمو الأمير محمد بن سلمان، عند إعلانه مشروع مدينة الخيال والمستقبل (نيوم)، إذ قال سموه: «إن الشباب السعوديين من الجنسين يشكلون حوالي 70% من إجمالي سكان المملكة، وأن أهم عنصر لدينا هو رغبة وإرادة الشعب السعودي خاصة مع توفر فرص -وصفها سموه- بأنها تكاد تكون «خيالية، وأن كل عناصر النجاح متوفرة وموجودة داخل المملكة لخلق الجديد».
وأردف سموه: «الشعب السعودي الذي عاش في الصحراء لديه الكثير من القيم والمبادئ والركائز، ويتمتع بالدهاء ويمتلك عزيمة جبارة، ومقتنع بشكل قوي للوصول بالمملكة العربية السعودية وبرامجها ومشاريعها إلى آفاق جديدة في العالم». وأضاف سمو الأمير الشاب محمد بن سلمان، يقول: «أنا واحد من عشرين مليون مواطن، وأنا لا شيء بدونهم وهم من يحفزني ويدفعني للأمام، وشبابنا إذا عملوا وتوجهوا بالشكل الصحيح وبكل قوة فسوف يخلقون بلدًا آخر مختلف، وسيضعون بصمتهم في العالم». ووصف سمو الأمير محمد بن سلمان، الشباب السعودي، بقوله: «إن كل هؤلاء الشباب لديهم شغفُ وطموح كبير جدًا على المستويين الشخصي والوطني، ولديهم الحرص والدقة والاحترافية والذكاء العالي لتحقيق المستحيل».
ومع كل هذه الثقة المحفزة التي عبر عنها بوضوح سمو الأمير محمد، أمام أكثر من 3500 شخص منهم وزراء للمال وكبار رجال المال والأعمال في العالم تجاه شباب المملكة، أطرح هنا فكرة لعلها تكون لبنة صغيرة تضاف إلى لبنات هذا المشروعات العملاقة، ذلك أننا لا نريد لشبابنا فرصاً وظيفية مفصّلة - على الجاهز- كما يقال، وإنما نتوق ونتطلع بشغف أن تكون المملكة «أكبر معسكر لتدريب الشباب السعودي على رأس العمل في العالم»، وذلك منذ اللحظة الأولى التي نضع فيها الوتد الأول على أرض أي موقع للمشاريع بالتعاون مع الشركات الكبرى التي تم أو سيتم التعاقد معها لأعمال التخطيط والإنشاء والتنفيذ، بحيث تشتمل العقود المبرمة على نصوص صريحة تُلزِم كل شركة ومقاول بتأهيل وتدريب وتشغيل أعداد غير قليلة من شبابنا السعوديين في كل مشروع على مختلف الأعمال الإدارية، والإشرافية، والأهم منها الأعمال المهنية والحرفية، كأعمال البناء بكافة أنواعها، وتقنيات الكهرباء والتبريد واللحام، والدهان والديكور، والتمديدات، وغيرها الكثير من المهام التقنية، والتشغيلية الأخرى.
نريد أن تقام في هذا المشروعات العديد من المعسكرات الفنية المهنية لتستقطب الشباب من سن (17-30) عاماً بعد تحديد الشروط المطلوبة التي يجب أن لا تكون تعجيزية، أو مستحيلة- بحيث يتم توظيفهم، ضمن برنامج «مكثف» يتلقون خلاله دروساً نظرية وعملية على كافة التخصصات التي سيحتاجها المشروع، بداية من تنفيذ البُنى التحتية من مسح للمواقع وأعمال البناء والتشييد، وانتهاءًا بإدارة وتشغيل وصيانة كافة المرافق والمباني والأجهزة والمعامل والآلات والمعدات.
إن تجربة -» شركة الزيت العربية الأمريكية» أرامكو - سابقاً، (شركة أرامكو السعودية) حالياً خير مثال على نجاح تجربة حقيقية مثل ذلك. فمنذ بدايات الشركة قبل حوالي 70 عامًا اشترط الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - على الشركة التي مُنحت عقد امتياز التنقيب عن النفط، وهي شركة (ستاندر أويل أوف كاليفورنيا) في (المادة رقم 23) من الاتفاقية الأولى، ما نصه: (أن تتعهد الشركة
بتوظيف - مواطنين سعوديين - مادامت الشركة قادرة على إيجاد موظفين سعوديين يؤدون العمل). وبناء على ذلك اعتمدت الشركة الأمريكية، إقامة أربعة أنواع من المدارس (المهنية)، وفي المقابل عينت الحكومة السعودية من جانبها (مراقبا) لها -تتولى الشركة دفع مرتبه- يقوم بمتابعة تعليم وتدريب العمال السعوديين على الأعمال الفنية والصناعية التي تنفذها الشركة.
وفي هذا الصدد، يقول معالي وزير البترول والثروة المعدنية السابق علي النعيمي: «إن هذا التعهد كان قراراً استراتيجياً (لتوطين) الوظائف في شركة أرامكو، وعلى إثره قامت الشركة باستقطاب الآلاف من أبناء البادية فعلّمتهم القراءة والكتابة وانطلقت بهم نحو مدارج التدريب والتأهيل». ولم يستعصِ على الشركة تنمية مهارات هؤلاء العمال البسطاء القادمون من سواحل الخليج العربي، ومن صحراء الدهناء وجبال السروات، أن يقودوا الأعمال الحرفية والمهنية كالعمل في مجالات البناء والنقل، والمستودعات، والحدادة والكهرباء والنجارة، وحتى إعداد وتحضير الوجبات في مطاعم الشركة، وتشغيل وصيانة المرافق الرياضية والترفيهية؛ وصولاً إلى العمل في منشآت الحفر والتنقيب عن البترول وإصلاح ومراقبة وصيانة معامل إنتاج وتكرير وشحن الزيت والغاز وتمديد خطوط الماء والكهرباء والغاز والنفط، وإنشاء الطرق والاتصالات السلكية واللاسلكية والصيانة العامة بأنواعها، وإلى أن تقلّد الكثيرين منهم مناصب إدارية وفنيّة عليا في إدارت الشركة وقطاعاتها في أنحاء المملكة، وكأني بمعالي الوزير الأستاذ علي النعيمي، يضرب بذلك الدليل على نفسه، فقد بدأ معاليه في شركة أرامكو، موظفاً صغيراً يوزع الأوراق بين المكاتب، فمنظفاً للرمل الخارج من آبار النفط، وارتقى من خلال مدرسة الجبل التي أسستها الشركة في بلدة الظهران، مع الصبر والمثابرة مواصلة العمل والدراسة، حتى تقلد معاليه المنصب الأعلى والأكبر في الشركة فأصبح رئيساً لمجلس إدارة شركة أرامكو السعودية، ثم بعدها وزيراً للبترول والثروة المعدنية في حكومة المملكة العربية السعودية.
وفي هذا السياق نشير إلى ما صرح به عراب الثورة الاقتصادية في ماليزيا ورئيس وزرائها الأسبق السيد مهاتير محمد، عندما قال في كلمة له في منتدى التنافسية الدولي الذي انعقد في مدينة الرياض قبل بضعة أعوام:»إنهم في دولة ماليزيا كان الرهان الحقيقي بالنسبة لهم، هو الاعتماد على الأيدي العاملة». وعندما سئل في أحد اللقاءات عن المرتكز الأساس الذي اعتمدوا عليه في تلك النهضة التي حدثت في ماليزيا، قال مهاتير: «بأنهم اعتمدوا على الشباب الماليزيين، فقد كانوا (تُرس) الاقتصاد الحديث».
ومن ماليزيا ننتقل إلى تجربة دولة اليابان، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوقيعه لمعاهدة الاستسلام في العام 1945م ، اعتمدت البلاد تطبيق مبدأ «إدارة الجودة الكاملة» بروح (الفريق الواحد) معتمدة بذلك على العناصر البشرية لتنهض باليابان بعد هزيمتها في الحرب. وبالفعل كانت تجربة «الإدارة اليابانية»، هي المحرك الأساس لنهضة اليابان، إلى جانب العديد من البرامج التنمية الإدارية والاقتصادية التي أولت الاستثمار في «التدريب» اهتماماً كبيراً، وأنفقت لأجل ذلك أموالاً طائلة على برامج التدريب والتأهيل، ودعمت من حول ذلك وتبعًا له مراكز الدراسات والبحوث.
لذلك فإنه لو تضافرت الجهود، وتم إعداد خارطة طريق مدروسة بعناية، والاستعانة بشركات عالمية متخصصة في مجالات «التدريب على رأس العمل» لأمكن لنا تأهيل وتدريب وتهيئة الآلاف من شبابنا السعوديين - وخاصة ممن يقطنون بالقرب من كل مشروعاتنا الجديدة - من خلال ممارستهم للأعمال الميدانية في تلك المعسكرات، التي لا بد أن تُهيأ تهيئة هندسية واجتماعية صحيحة ومناسبة للعيش الكريم لهؤلاء الشباب، بحيث تُوفر لهم مجمعات سكنية مؤقتة تحتوي على غرف من حولها مرافق اجتماعية وصحية وترفيهية، وبحيث تتاح الفرصة لهم لحضور بعض الدروس النظرية مقرونة بالعمل التدريبي الميداني على الطبيعة، وأن يفرض عليهم نظام صارم فيه من الالتزام والانضباط والمراقبة ما يُمكّننا من معرفة المستحقين للمكافآت والحوافز والمميزات التي سيحصلون عليها بعد انتهائهم من البرنامج التدريبي، وتوقيع عقودهم الوظيفية الرسمية في المشروع. وأنا على يقين من أن هذه المشاريع ستمكننا من توليد وتوفير ما كنا قد عجزنا عن تنفيذه -مع الأسف- طيلة حوالي خمسة عقود لم نجد خلالها سعوديين يعملون بـ(أنفسهم) في مجالات فنية ومهنية وحرفية في المشروعات الميدانية إلا ما ندر.
وربما أنه لو أضيفت حوافز أخرى لهذه الكوادر المهنية الواعدة على غرار ما قامت به شركة أرامكو من السابق في تجربة فريدة ورائعة مع شباب البادية بأن هيأت لهم مدن متكاملة المرافق والخدمات، وقدمت الأراضي والقروض الميسرة لهم لبناء مساكن لكل منهم، فإنه يمكن أن نقدّم للشباب حوافز من نوع آخر كأن تقدم منح دراسية جامعية لعدد منهم فرصاً للابتعاث والدراسة في الخارج على حساب هذه المشاريع، كما أنه يمكن أن نتيح لمن يرغب من هؤلاء الشباب بعد الانتهاء واكتمال أي مرفق في هذه المشاريع، أن يتقدموا للتسجيل في قائمة الأولوية للحصول على فرص حقيقية للاستثمار - حسب توفر الإمكانية - في أحد جنبات المشروع وضمن نطاق مجالهم الذي تدربوا عليه، بحيث تقدم لهم ميزة فريدة لإقامة مشاريع خاصة بهم، ونحن بذلك نصنع منهم راوداً في تنفيذ الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وفي هذا كسب لولائهم للمشروع الذي تم فيه تطوير قدراتهم المهنية والتقنية.
إن مثل هذه البرامج «التحفيزية» ستسهم في تدفق الآلاف من شبابنا من كافة أرجاء المملكة، للتسابق والانضمام لهذه «المعسكرات التدريبية»، مما سيساهم في خفض أعداد البطالة التي وصلت نسبتها إلى ما يقارب 13 % لدى الشباب، وتوفير الآلاف من الأيدي المهنية والحرفية الشابة التي تحتاجها بلادنا، ونكون بذلك قد استثمرنا في واحدٍ من أهم عناصر النمو الاقتصادي، وهو الاستثمار في العنصر البشري الوطني للاشتغال في المهن الفنية التي لا غنى لنا عن من يعمل بها في بيوتنا، ومكاتبنا وممتلكاتنا.
إن مشروعات ومدن المستقبل في المملكة العربية السعودية، هي مفاتيح الأمل التي نتطلع لها كسعوديين، لأن تكون من مفاخر الإنجازات الوطنية لتدريب وصقل مهارات شبابنا السعودي مهنياً وعمليًا، كما أننا بذلك نجسد الرسالة التي أكدت عليها رؤية المملكة 2030، من أن «شباب الوطن»، هم أهم محور لهذه الرؤية، وأن الطاقة التي لديهم هي أعز ما نملك، وأن عليهم يقع الحمل الكبير لتنفيذها حتى يصبحوا طاقات منتجة وفاعلة خلال السنوات القادمة، خاصة أنهم يشكلون ما نسبته حوالي 70 % من المجتمع، وهم من سيتضاعف على أيديهم حجم الناتج المحلي، ولا شك أن مرد ذلك هو التوسع في إيجاد المزيد من مجالات الإبداع، بما يعود على وطننا بالخير الوفير وهو ما تسعى إليه قيادتنا الحكيمة، وتبذل من أجله قصارى الجهد بالقول والعمل الجاد والمخلص.
** **
عبدالوهاب القحطاني - نائب رئيس التحرير
** **
المصدر : أرامكو السعودية 80 عامًا بالصور