د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
إن المرور بتاريخ العظماء ينكشفُ عن تأثيرهم في المكان والزمان والإنسان، وذلك المرور أشبه بمحاولة عبور عظمى للوصول إلى شواهد تلك اللحظات الممتدة اللامعة وشخوصها وحركات التفاعل المختلفة التي تبدلتْ لها الأحوال إلى الأجمل والأجدى.. ودائماً ما يُوقّر الإبداع حول الفكر والأدب، فتقام المنصات المنبرية والندوات لاستحضار سير أولئك المستحقين حتماً، وفِي رؤيتي الخاصة أن الإبداع الأكثر حيوية الذي نحتاجه اليوم هو استعراض سيرة الوعي الإنساني الذي اتكأ إلى حاجة المجتمعات في عهودنا الماضية والحاضرة، وتحققتْ من خلاله أمجاد وطنية؛ ونبض مجتمعي متحضر، وللحضارة زوايا متعددة وأدوات متنوعة، ويقف التعليم في عليائها، ومن هذا المنطلق جاء الوفاء من مركز الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري الثقافي في الجوف بإقامة ندوة مضيئة عن رائدة التعليم الأولى في منطقة الجوف لطيفة بنت عبدالرحمن السديري وزمان الندوة في 19من شهر رجب من هذا العام إيماناً من المؤسسة التنويرية بأن الوقوف على صفحات تلك الشخصية المؤثرة استرجاع لمراحل من التاريخ التعليمي المناطقي الجدير بالاهتمام، كما أنه ليس تبياناً عن صاحبة السيرة المؤثرة فقط إنما هو أيضاً استقراء للقيم العليا التي بثتها رحمها الله في ثنايا الواقع المجتمعي والتعليمي ويحتاجها واقع المجتمعات التعليمية اليوم لترسيخ معنى التفاني والصدق والدقة في نقش انعطافات الانطلاق..
والذي يمكن إيجازه عن الندوة أنها حملتْ في كل أوراقها المطروحة نبض المنجز الإنساني المتحضر للرائدة لطيفة السديري، وأنها كانت في ذلك العهد حالة إدارية بامتياز حققتْ رحمها الله في ذلك الزمان والمكان ما لم تحقّقه مؤسسات صاعدة، وكل ما طُرح تسكنه الدهشة، ويحيطه الإعجاب بتلك الشخصية الوطنية الفريدة.
كما أن العلائق بين شخصية الندوة «لطيفة السديري «ومنطقة الجوف وأهلها علاقة تجاوزتْ واجبات العمل التعليمي، وأسوار مؤسساته؛ فالجوف في أعماق لطيفة السديري رحمها الله خلّدته في صناعة حياة ونهضة وانعتاق من الممنوع المباح واستمتاع متفوق بالمعرفة كخلاصة في مواجهة الجهل، وصلات أخرى فاخرة بالوطن الكبير.
ولم تكن ندوة «لطيفة السديري سيرة وحياة» معلومات متواترة أو مرويات! بل كانت لطيفة السديري رمزاً حيّاً في ذاكرة التعليم في الجوف؛ وتم اختيار المتحدثات ممن عملن معها فترات مختلفة وفِي مواقع تعليمية مختلفة أيضاً ومن لهن صلات بها من المناطق الأخرى؛ ومن الإضاءات في تلك الندوة المكتنزة بـ6 من أوراق العمل أن المتحدثات تتبعن في صياغات مختلفة كل تفاصيل المشهد الجوفي التعليمي في ذلك العهد (من عام 1382حينما تأسست أول مدرسة إلى عام 1414حيث كانت رحمها الله أول قيادة للتوجيه التربوي) آنذاك، كما أنه من اللافت في الندوة أن كثيرات ممن يجلسنَ في صفوف الحاضرات لديهن حكاية مجزية، وموقف فريد عن الرائدة لطيفة السديري رحمها الله، فقد التحفتْ بالإنسانية وتوسدتْ المسؤولية الوطنية؛ فكانت في الجوف كتاب تاريخ عميق، وذاكرة مواقف مكتنزة، وحكاية أجيال متجددة رغم قدم العهد..
تحدثتْ الندوة عن سيرة حافلة بالنماء المجتمعي والبذل التعليمي الصادق الذي يتتبع مساقط غيث المعرفة منذ أقنعتْ نساء الجوف بكواشف التعليم المبهرة فاتخذْنها نموذجاً يُحتذى، وكان في الندوة حديث منبري آخر عن مفتاح شخصية المربية لطيفة السديري الاستثنائية في قيادة المجتمع النسائي الجوفي حيث مثلتْ التعايش وقبول الآخر والاستفادة القصوى من الفكر المتوازن الآخر، وتضمنتْ الندوة أيضاً قدرتها العالية في تطويع البيئات التربوية، والتركيز على التفاصيل الفاعلة وتجاوز الهش من الموضوعات، كما عُرفتْ رحمها الله بالنظرة العميقة الثاقبة ولم تكن لحظاتها تنفق هباء بل رسخت لطيفة السديري خلال عملها سياسة القيادة التي انطلقت من أريج الود والعلاقات السامية.
وكان من أطواق الندوة الفاخرة أن تبنى مركز عبدالرحمن السديري الثقافي جائزة تعليمية في البحث العلمي تحمل اسم لطيفة السديري رحمها الله وتم إعلان ذلك في ختام الندوة من قبل مساعد المدير العام للمركز الدكتورة مشاعل السديري،
ولقد امتلأت الندوة بالشهود العدول والشواهد المضيئة والاستدلالات المثيرة للإعجاب بتلك الريادة التعليمية رحمها الله.
ونتمنى أن تنال لطيفة السديري -رحمها الله- تتويجاً وطنياً في مناسباتنا الوطنية الفاخرة.