د.فوزية أبو خالد
سأل أحد الزملاء سؤالاً على «تويتر» قائلاً: لماذا ليس عندنا في وطننا سوى عدد محدود من مؤسسات الرأي وصناعة السياسات أو اقتراحها بما قد لا يكفي خصوصاً في هذه اللحظة المشحونة بالتحولات ليواجه المستجدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وثورة المعلومات التقنية وأدواتها.
وصادف مروري صدفة على تغريدته المتواشجة مع حس المسؤولية الوطنية لهذا المرحلة من عمر الوطن، فأجبته على «تويتر» أيضاً بتغريدة مماثلة. كتبت فيها بصدق, «قد يكون ذلك لانشغال المختصين والخبراء، مثلنا, بمشاريعهم الشخصية في العمل على اختلاف مجالاته وجبهاته المدنية والحكومية أو قد يكون لضعف مبادرة المعنيين ممن يملكون المعرفة والخبرة والقادرين على الإدارة والعمل النظري والميداني في الإقدام على تبني وتأسيس بيوتات للرأي والبحث ووضع التصور للسياسات. فلماذا لا نخوض تجربة المبادرة لتأسيس واحد من مراكز الرأي أو مؤسساته».
ولم يخطر على بال الزميل ولا على بالي أن نتوجه بالملامات لأي جهة أخرى، فالنقد الموضوعي أن تبدأ أولاً بنقد الذات ولا تعلق القصور على الواقع الموضوعي إلا بعد اختباره وفحصه ميدانياً.
وبناءً عليه قررنا أن ننضم للقلة من مؤسسات الفكر والرأي التي لم تنتظر وقامت بتعليق الجرس مثل مؤسسة الفكر العربي، ومؤسسة أسبار ومؤسسات الدراسات الغربية العربية ومؤسسة سما وسواها من مؤسسات الفكر والرأي القليلة جداً على أية حال في المملكة, خاصة لو قارنا العدد بسوانا عداً تنازلياً أو تصاعدياً فبمصر ما يزيد على أربعين مؤسسة فكرية مدنية أما في أمريكا الشمالية فيصل عددها 1835 مؤسسة أهلية تعنى بالفكر والرأي والسياسات.
وفي محاولة للمشاركة في تشجير الفراغ المعرفي على مستوى المساهمة المدنية من أبناء وبنات المجتمع في هذا النشاط الحيوي بادرنا الزميل المعني وأنا, وهو بالمناسبة يحمل درجة الأستاذية في أحد تخصصات العلوم الإنسانية المهمة إضافة لنشاطه العلمي والأدبي ومؤلفاته الثرة في المجال النقدي ومساهماته المستنيرة في قضايا الرأي العام، إلى تبني مبدئي لفكرة تأسيس مخزن للفكر والرأي وصناعة السياسات. وكلمة خزان فكري هي مجرد ترجمة حرفية لمصطلح «ثنك تانك» أما ترجمته المصطلحية العربية فلها عدة مشتقات لغوية إلا أن أكثرها شيوعاً هي مؤسسة الرأي ودراسة السياسيات. (Think Tank).
جندنا أنفسنا رغم قراءاتنا المسبقة بالطبع لمزيد من البحث في مجال الثنك تانك لتحديد دقيق لأشكالها ومضامينها ورسالتها ورؤيتها وآلياتها وسبل تنفيذها وعضويتها ومجالات نشاطها في الفكر والرأي والبحوث والدراسات ومجالها المكاني والزمني.
وكما هو معروف في عالمنا المعاصر فإن مثل هذه المؤسسات من مراكز الفكر والرأي وخاصة الأهلي المستقل منها أصبحت ضرورة حيوية اليوم كحلقة وصل تفاعلي بين صناع السياسات في مجالات العمل المنهجي الأكاديمي المتخصص من الثقافة للصحة ومن الإدارة للاقتصاد وبين دوائر صناعة القرار السياسي ودوائر سلطاته الأخرى إدارية ومالية.., وذلك بهدف معالجة الإشكاليات والقضايا المجتمعية كأسئلة معرفية قابلة للبحث والاكتشاف وللمسح والإحصاء والتحليل الكمي والكيفي للحصول على حلول عملية للقائم منها وحلول استباقية للمحتمل منها.
وقد قام الزميل بعد هذه الجولة البحثية المشتركة و»المنفردة» في آن, بوضع تصور مكتوب وخطوط عريضة لمشروع تأسيس ثنك تانك. وكان ذلك في أوائل صيف 2016 ميلادي الموافق منتصف شهر رمضان المبارك 1437هـ (من المهم جداً ملاحظة تاريخ بداية العمل الأولي على الفكرة).
قمنا بعدها بترشيح زميلات وزملاء من طيف واسع من التخصصات العلمية والأدبية الدقيقة في مجال المعرفة العلمية وفي مجال العمل البحثي من العلوم الاجتماعية والإنثروبولوجية والإحصاء إلى الإدارة والاقتصاد ومن مجال تخصص السياسة والتاريخ والصحافة والخبرة الدبلوماسية وتجربة العمل الأممي لمجال الطب والعلوم الطبية وكتابة الرأي والمجال الثقافي.
ولا غرو أن تكون الخطوة التالية مباشرة بعد ورقة العمل الأولية التأسيسية التي تميز في إعدادها الزميل، أن نشرع في تحديد من سيتحمل على عاتقه مسؤولية العمل في مؤسسة رأي مختصة بالفكر وصناعة السياسات، وذلك في ضوء التعريف المختصر لعضوية مثل هذا النوع من بيوتات التفكير والبحث القائل بأنها تتكون من مجموعة من المختصين والخبراء المعنيين بتقديم المشورة والرأي للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعنى بتوليد أفكار جديدة وتطوير أساليب وأدوات عمل مبتكرة لتلك القضايا العالقة أو المستجدة في مواجهة المستجدات والتحولات في المجتمع والدولة المعنيين.
بعد توافق عدد متنوع من المجموعة المعنية التي كانت لا تتمتع بالحماس للفكرة وبالمعرفة والخبرة والقدرة على اجتراحها وحسب بل بالاستعداد التام للعمل بتفانٍ وإخلاص لوضعها موضع التنفيذ, قامت المجموعة بعمل العصف الذهني المطلوب وكذلك بالبحث والنقاش المستفيض لطبيعة العمل المأمول بما استقر الرأي فيه بالإجماع على أن يكون الثنك تانك المأمول مؤسسة رأي للبحث ودراسة السياسات ككيان مستقل مدني غير ربحي توظف معرفتها وخبرتها من خلاله في المجالات المشار إليه أعلاه، لتسهم مع المجتمع والدولة في مواجهة متطلبات التحولات بعقول وطنية لا تعرف المملكة العربية السعودية عن بعد كبيوتات الخبرات الأجنبية بل تعرفها كوطن وتنتمي إليها ضميرياً ووجدانياً بقدر ما تملك التعامل مع قضاياه بعلمية وعقلانية. هذا في الوقت الذي تملك فيه اللغة العصرية والروح التفاعلية المستقلة في التخاطب مع العالم الخارجي.
إلا أن هذا الجانب الحلمي أو الوردي من القصة لا يصل بنا إلى النهاية المتوقعة في وضع أقدامنا على البداية العملية لهذا المشروع المنشود.
فبعد مضي عامين بالتمام في منتصف شهر رمضان 1439هـ/ مطلع صيف 2018هـ، لاحظوا عامين «أربعة وعشرين شهراً» بأسابيعها وأيامها على طرح الموضوع استجاب وزير الثقافة والإعلام د. عواد العواد مشكوراً للقاء بممثلين عن المجموعة التي تشكل المجلس التأسيسي لهذا المشروع الفكري لشرح الفكرة له شخصياً، على أمل الفوز بالتصريح الرسمي المرتجى ورغم ما أبداه من تفهم لهدف مؤسسة الرأي هذه واقتناعه بضرورتها في عهد الاستقرار والتحولات للمملكة اليوم وبجدية المجموعة الطموحة وقدرتها على تحمل مثل هذه المسؤولية الوطنية معرفة وخبرات، فإن أوراق المشروع الرسمية المقدمة للوزارة لا تزال تقبع في أروقتها وتدور في الفلك البيروقراطي البطيء في الوزارة دون إصدار قرار فعال في حقها. وبالتالي فإن هذا يعني أن هذا المشروع بتأسيس ثنك تانك مؤسسة رأي للبحث والدراسة والسياسات, الأول من نوعه في تاريخ المملكة في الجمع في عضويته المؤسسة والعاملة بين أطياف متعددة من أصحاب وصاحبات التخصص والخبرات سيبقى حلماً من أحلام الصحو أو المنام.
وما حداني للكتابة عن الموضوع أنه في رأيي لا يشكل موضوعاً خاصاً بمجموعة بعينها بل يخص كل المبادرات المعرفية والميدانية المماثلة التي يصعب أن تخضع لنفس تلك المعايير البيروقراطية المعيقة أو تلك العين الأحادية المعتادة في التوجس من كل ما يتعلق بالرأي والفكر المدني عادة خصوصاً في لحظة تطرح فيها القيادة على المجتمع بجميع قواه الاجتماعية والمعرفية القادرة استكتتاباً عاماً للمشاركة في عملية التحولات الوطنية البناءة وعلى رأسها العناية بالرأي والفكر وبتوفير قواعد المعلومات والبحث العلمي وصناعة السياسات الملهمة والخلاقة نظريًا القابلة للتطبيق ميدانيًا.