د. عيد بن مسعود الجهني
ارتفاع أسعار النفط لم يعد كونه ظاهرة عرضية وإنما أصبح حقيقة واقعة تسلّم بها أسواق النفط ومنتجوه من دول وشركات نفط والدول الصناعية المستهلك الرئيس للنفط وغيرها.
وقد تدخلت عوامل عديدة لاستمرار تحسّن أسعار النفط هذا العام منها ما يتعلّق بالعرض والطلب الفعلي والتوقعات والمضاربات وبعض المعلومات الصحيحة والمغلوطة ومعدلات برودة الطقس وانخفاض المخزون التجاري لدى الدول الصناعية، ومنها ما هو سيكولوجي، فالأسعار تتأثر بدرجة كبيرة بالحالة السيكولوجية لوسطاء النفط إضافة إلى تأثرها بقوة بتصريحات مسؤولي النفط خاصة في الدول الرئيسية المنتجة والمصدرة كالسعودية.
ناهيك عن التزام المنتجين خاصة أعضاء الأوبك والدول المتعاونة معها ليصبح الفريق النفطي صاحب القوة والنفوذ (24) دولة بالخفوضات في سقف الإنتاج الذي اتفقوا عليه بنسبة كبيرة، هذا ما رفع السعر ليكسر حاجز 50 دولاراً عندما التزم الجميع بالتخفيضات التي اتفق الأعضاء عليها واستمر السعر في الصعود ليكسر حاجز الـ60 دولاراً ثم كسر السعر حاجز الـ74 دولاراً في شهر مارس الماضي، ويبدو أن هذا السعر يعد في رأي العديد من الخبراء عادلاً، كما تراه الأوبك وشركاؤها الذين انضموا تحت سقفها على حد اعتقادنا.
إذ ارتفاع أسعار النفط مرتبط بأساسيات السوق من عرض وطلب في سوق النفط الدولية وتماسك الأوبك والدول المتعاونة معها من خارجها بالتخفيضات التي تم الاتفاق عليها، وهذا ما حدث، الأمر الذي جعل الأسعار تستمر في زحفها إلى أعلى لتكسر حاجز 75 دولاراً للبرميل، ويبدو أن الدول المستهلكة مستعدة للتعايش مع تلك الأسعار، كما أن الدول المنتجة الأوبك والدول الأخرى وفي مقدمتها روسيا والمكسيك عازمة على السير قدماً في تضامنها لخلق سوق نفط دولية مستقرة تدعم سعراً عادلاً للمنتجين والمستهلكين.
ورغم أن السيد ترامب يلقي اللوم على الأوبك في هذا الارتفاع للأسعار، إلا أن هذا في حقيقة أمره ليس سوى لذر الرماد في العيون كما يقولون فسيد البيت الأبيض يدرك أن ارتفاع الأسعار إلى هذا المستوى فيه مصلحة محققة تضمن دخول النفط الصخري السوق من أوسع أبوابه فالمعادلة النفطية تقول إنه كلما ارتفع سعر النفط التقليدي أصبح البترول الصخري مربحاً لارتفاع تكاليف إنتاجه مقارنة بزميله البترول التقليدي.
هذا لأن البترول الصخري الذي بدأت كلفة إنتاجه تتجه إلى الانخفاض بشكل متسارع نتيجة للتحسينات التقنية، ولذا سيكون بمقدور الشركات الأمريكية ضخ كميات متزايدة منه في سوق النفط ليتجاوز تقديرات نموه السابقة التي كانت تقدّر ما بين 400 - 500 ألف ب/ي الأمر الذي يشعل حدة المنافسة في المستقبل بين الفارس الجديد (البترول الصخري) والنفط التقليدي صاحب التاريخ العريق الذي يعود تاريخه لعام اكتشافه تجارياً 1859 وتسعيره عام 1860، وبقي صامداً كالطود وسيبقى السلعة الأهم والأعلى في التاريخ الإنساني ما دام بقيت قطرة واحدة منه.
أسعار النفط التي بدأت وتيرة صعودها بدءاً من عام 2004 حتى عام 2008 لتبلغ الثريا عندما كسر سعر النفط حاجز الـ147 دولاراً للبرميل في شهر يوليو من ذلك العام ثم عادت للانحدار السريع الذي خرج من رحم أزمة الكساد العالمي التي هبت رياحه من بلاد العم سام عام 2008 ، ثم انخفضت بعد ذلك، بل إنها انهارت مع شدة الأزمة المالية لتبلغ أدنى مستوى لها في شهر سبتمبر من ذلك العام (31.27) دولاراً للبرميل ليبلغ الفارق حوالي (116) دولاراً بين أعلى سعر وأدنى قيمة لها في ذلك العام.
ومن يتابع تحركات أسعار النفط في الفترة الواقعة بين عام 2001 وحتى عام 2015 يتضح له أن متوسط السعر في عام 2001 بلغ 26 دولاراً ثم كسر حاجز 147 دولاراً عام 2008 قبل عاصفة الكساد الاقتصادي في ذلك العام، ولذلك وللوقوف على أسباب تقلبات أسعار النفط في تلك الفترة سارعت مجموعة مؤسسات مالية متخصصة لدراسة تلك التقلبات ومسبباتها.
وعلى الجانب الآخر ولنفس السبب قامت إحدى لجان مجلس الشيوخ الأمريكي بلقاء بعض المختصين ومنهم المضارب ذائع الصيت جورج سورس ومايكل ماسترز وآخرين، ومن جانبها بادرت مجموعة العشرين التي تمثّل أكبر الاقتصاديات الدولية بتكليف بعض بيوت الخبرة ذات العلاقة المباشرة بدراسات النفط وأسعاره لتقديم رؤاها في هذا المجال، والأوبك من جانبها تقوم على الدوام بدراسة وتحليل الأسواق المالية ومستقبل الأسعار لكي تتحاشى تمادي الدول الصناعية المستهلك الرئيسي للنفط في تحمّلها مسؤولية جنوح الأسعار إلى أعلى رغم أنها ليست المسؤولة عن ارتفاع الأسعار الحاد في تلك الفترة خاصة أنها سبق لها التخلّي عن معادلة تحديد الأسعار.
وإذا كان خبراء النفط ومراكز البحوث المتخصصة ووكالة الطاقة الدولية والأوبك المنتج الرئيسي للنفط يؤكّدون أن أسباب تقلّبات أسعار النفط تعود في معظم الأحيان لنشاط المضاربة من مجموعة المتداولين في سوق البترول الدولية وللأسباب التي ورد ذكرها آنفاً، وهذا يجب أن تؤكده الأوبك التي تعتبر أنها أكثر قدرةً وتأهيلاً على تحليل أسواق البترول وإرجاع تغيير الأسعار إلى معادلتي العرض والطلب.
وإذا كانت أسعار النفط منذ أوائل هذا العام سادها نوع من الاستقرار والزيادة المستمرة لتكسر حاجز الـ75 دولاراً للبرميل وسعر سلة أوبك التي تضم متوسطات أسعار (14) خاماً من إنتاج الدول الأعضاء بالمنظمة كسر حاجز 68 دولاراً للبرميل، فإن الأوبك ليس لها دور رئيسي في ذلك، بل ولا تعد ظاهرة عارضة أو خطأ لتعتذر عنه الأوبك للدول الصناعية المستهلكة للنفط وغيرها من المنظومة الدولية.
ويبقى القول إن ارتفاع أسعار النفط على سبيل المثال لسلة أوبك لتبلغ (60) دولاراً فمن المهم التوضيح أن القيمة الحقيقية لهذا السعر لم تتجاوز (12) دولاراً مقارنة بالأسعار في عام 1974م عندما بلغت الأسعار (11) دولاراً، وهذا نتيجة حتمية لتآكل قيمة صرف الدولار الذي يسعر به النفط أمام العملات الرئيسية وتسارع وتيرة التضخم على مدى العقود السابقة من تاريخ النفط.
هنا يتضح أن خزائن الدول المنتجة للنفط صحيح أنها دخلتها وتدخلها دولارات فلكية إبان ارتفاع أسعار نفوطها، لكن حدة التضخم وانخفاض سعر صرف الدولار تلتهم هذه الدولارات وتصبح المعادلة (نقود كثيرة تطارد مواد قليلة) في ظل ارتفاع أسعار جميع المواد بشكل صاروخي خلال العقود الثلاثة الماضية، وبقي سعر برميل النفط يراوح مكانه بسبب الدولار المريض وزميله التضخم الخبيث الذي تدفع قيمته غالباً دول النفط.
لذا تبدو أمامنا حقيقة مهمة مفادها أن اتجاه أسعار هذه السلعة الإستراتيجية يجب أن ينظر إليه من ناحية قيمتها الحقيقية وليس القيمة الاسمية التي كلما ارتفعت بدأ صراخ الدول المستهلة لخفض الأسعار، ومن ثم فإن الاتهامات التي تطلقها الدول المستهلكة ووسائل إعلامها بمكنته المؤثرة ضد الدول المصدرة للبترول وفي مقدمتها بالطبع الأوبك، هذا هدفه الاستفادة القصوى من إيرادات النفط في بلدانهم بسبب الضرائب التي يفرضونها على سلعة النفط، وفي رأينا أنهم يفوزون بحصة الأسد بسياساتهم تلك ولا يتركون للدول المنتجة للنفط سوى الفتات.
ثم يبقى القول أيضاً أن تعاون روسيا التي أصبحت في رأينا صوتاً مؤثّراً ومعها المكسيك وغيرها من الدول المتضامنة مع الأوبك والتزام الجميع بالتخفيضات التي تبلغ 1.8 مليون ب/ي حتى نهاية هذا العام، والذي سيبحث أعضاء الأوبك والدول المنتجة (المستقلين) خلال اجتماعهم في العاصمة النمساوية فيينا تمديده في شهر يونيو المقبل وقد يستمر لزمن أطول، هذا الاتحاد الذي أصبح (قوة نفطية) من المهم الاستمرار في دعمه وتقوية أجنحته على طريق سوق نفطية يسودها الاستقرار لفترة أطول تضمن سعراً عادلاً للجميع.. ففي الاتحاد قوة.
والله ولي التوفيق.