ياسر صالح البهيجان
فكرة محو الأميّة ليست وليدة طفرة فكريّة بشريّة، بل كانت ملازمة للإنسان منذ أن أدرك وجوده وضرورة تواصله مع أخيه الإنسان، أي منذ إنسان الكهف قبل آلاف القرون الذي كان يرى الأميّة ماثلة في الفرد غير القادر على رسم احتياجاته على جدران أحد الكهوف أو حتى فك رموز رسمة خطّها غيره.
كانت الأميّة في بادئ تجربة التواصل البشري محصورة في أطر محددة بالإمكان محوها بأبسط الأدوات وأقلها كُلفة؛ لأن طبيعة اللغة المستعملة لم تتجاوز التعبير عن الحاجات الغريزية في المقام الأول وضمان استمرار بقاء الجنس البشري على قيد الحياة، لكن «الأميّة» كانت تضمر للإنسان تحولات كبرى تنوي إحداثها إن أراد الكائن العقلاني التمادي في استعمال عقله وتطوير لغته وتفجير طاقاتها التعبيريّة الكامنة.
وما إن شرع الإنسان في وضع أبجديّات لغويّة أكثر تعقيدًا من رسومات الكهوف حتى تحولت «الأمية» إلى مأزق تواصلي أحدث شرخًا مجتمعيًا بين فئة قادرة على الكتابة بالأبجديّات الجديدة وأخرى عاجزة عن فك طلاسم المكتوب، ومعها اكتسب مصطلح «التعليم» بُعدًا دنيويًا تواصليًا بعد أن كان محدودا في نطاق «التعاليم الدينية»، عندها لم يكن «المتعلم» إنسانًا لديه المعرفة الواسعة بقدر ما كان لفظًا مضادًا لـ«الأمّي»، ومنذ ذلك الحين تحوّلت «الأميّة» إلى وسم سلبي انتقاصي وتصنيفي، وعززت الثقافية السائدة تلك الفجوة لتتمكن من الإمساك بزمام المجتمع وتسييره وفق رؤيتها وبما يخدم أنساقها وأيديولوجيتها.
وعندما أوشكت المجتمعات البشرية على التخلص من مصطلح «الأميّة» بتكثيف الدور التعليمي وفق رؤية الثقافة، حتى برزت التكنولوجيا لتنتج أميّة جديدة أعادت الدور التصنيفي والتمييزي بين البشر تمامًا كما فعلت الأبجديّة اللغويّة في أوّل المطاف، وكما كان إنسان الكهف أميًا مقارنة بمن يجيد القراءة والكتابة، فإن الأخير بات أميًا إزاء من يحسنون التعامل مع الأجهزة الذكية.
«الأميّة» اختراع ثقافي بامتياز، والثقافة تتأسس على مبدأ التصنيف والتقسيم ووضع أفراد المجتمع في سلم تراتبي، ليبقى هناك سادة وآخرون مسودين، لذلك تحارب الثقافة في باطنها تحركات محو الأميّة بإنتاج أميّات متعددة كجزء من سيرورة الزمن وتحولاته، وكوسيلة لمنع ترسيخ فكرة أن البشر سواسية، فهي حامية لمفهوم النخبة الاستعلائية والفحولة الفكريّة التي تعطي الحق للإنسان النخبوي احتقار ذلك العامّي الذي لم يبلغ من المعرفة ما بلغته النخبة.
العمل على «محو الأميّة» لن يمحوها إطلاقًا لأن الثقافة أوجدت مصطلح «الأميّة» ليظل ملازمًا لأي تجمع بشري، وبدلاً من ذلك يجدر بالمجتمعات البشريّة إطلاق حملات ذات بُعد تصالحي يحث على قبول الإنسان ومعاملته بعدالة ومساواة أيًا كان مستواه التعليمي، والبدء بجعل «الأميّة» جزءًا من المفاهيم العتيقة تمامًا مثل «العبوديّة»، لكي تترسخ القيم الإنسانية الأخلاقية بين الإنسان وأخيه الإنسان بعيدًا عن أي تصنيف ونظرة دونية.
كما أن استمرار ملازمة مصطلح «الأميّة» لمفهوم «التعليم» ينخر في البُعد الأخلاقي للتعلّم، ليستحيل العلم إلى أداة ليس لها من هدف سوى كسب المكانة الاجتماعيّة العليا التي اخترعتها الثقافة كنمط من أنماط الاستعلاء والتكبّر، ولا يمكن هدم ذلك الهرم الاستعلائي إلا بتفتيت القيم السالبة «للأميّة» وكشف نسقيتها المضمرة اللا أخلاقية.