د. حسن بن فهد الهويمل
فكرنا العربي مأزوم.
تلك حقيقة، كالنص الذي لا اجتهاد معه. وفي أمداء هذا الفكر المأزوم تلتطم المتناقضات، وتحتدم الخلافات، وتشتد المشاحنات.
والطامة الكبرى حين لا يكون فكرنا في مستوى أزمته، ونوازله، ثم لا يدري بنقيصته. على شاكلة [الجهل المركب].
وحين لا ينتزع العلم انتزاعًا من صدور الرجال، فإن العلماء الربانيين يموتون الواحد تلو الآخر، ثم يبتدر الصدارة جهال متعالمون، فيَضلون، ويُضلون، ثم تكون الهلكة لهم، ولمن يستفتونهم.
والأمر لا يتعلق بالعلم الشرعي، والفتيا التعبدية، وحسب. [المدنية الحديثة] اقتضت مأسسة كل شيء، وتقنين كل شيء، وتخصيص كل شيء، وعلمية كل شيء.
وكل ناهض بشأن مؤسسي، علميًّا، أو فكريًّا، أو قياديًّا، أو سياسيًّا، أو إعلاميًّا لا بد أن يكون عالمًا بخفاياه، متقنًا لمناهجه، متوفرًا على آلياته.
وحين لا يكون المسؤول في مستوى المسؤولية يورد قومه دار البوار، وبئس الورد المورود.
لقد بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمل الرسالة إلى الناس كافة، وأُلقي إليه قول ثقيل، وبقدر ما تكون المهمة، يكون إنسانها:-
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}، [كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ].
ومع ذلك كله فإن الرسول بشر:- {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}، و[لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ]. [إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ].
هذا البشير النذير الذي شرفه الله، حتى وصل سدرة المنتهى، حين يجتهد بمعزل عن الوحي، متسرعًا، أو مستبطئًا، يأتيه التثبيت:- {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}.
يعرض له ما يعرض لما سواه من البشر من الخطأ، ولكنه لا يُترك على خطئه، بل يبادره الوحي بتدارك اجتهاده، وتصحيح مساره؛ لأنه مشرِّع في قوله، وفعله، وإقراره.
- فمَنْ لاجتهاداتنا التي نمارسها بجرأة، وثقة، ثم نقطع بصحتها، نعادي، ونصادق من أجلها. تلكم هي الكارثة التي أوردتنا موارد الهلكة، وبئس القرار.
كل صدام، أو خصام، أو قتال، أو عداوة، أو بغضاء، منشؤها خطأ الاجتهاد، وإصرار صاحبه عليه، ورهانه على صحته، وأنه لا معقب له.
[كلُّ فتاة بأبيها معجبة]. وغيرتنا على بناة الأفكار كالغيرة على البنات الأبكار. وذلك منشأ التنافس، والتعصب.
لا أحد يرتهن اجتهاده للاحتمالات. القطعيات هي سيدة الموقف؛ ولهذا نراها تحول دون المراجعة. أنفة في غير محلها، واعتزاز غير مبرر، وعنتريات فارغة من كل معنى.
رسول الله صلى الله عليه وسلم المكتمل خَلقًا، وخُلقًا، وعصمة، الذي لا ينطق عن الهوى، اجتهاده البشري احتمالي، وليس قطعيًّا، حتى يؤيَّد بالسكوت من الملكوت.
وما من أحد منا يهون عليه القول باحتمالية اجتهاده، وقليل من الناس من يصيخ للناصح، والناقد، والمُسائل.
الرسول صلى الله عليه وسلم تعقبه الوحي، واستدرك عليه، وراجعه، بل عاتبه على بعض ما يفعل. وما بدر منه عناد، ولا تكتم.. حتى العبوس والتولي أقرأه أصحابه، وزاد احتفاؤه بـ[ابن أم مكتوم].
عاتبه على مفارقة [المستضعفين] وطردهم طمعًا في هداية صناديد قريش، وعلى مفاداة [أسرى بدر]، وعلى الإذن لـ [المتخلفين] عن [غزوة تبوك]، وعلى [الصلاة] على رأس المنافقين، وعلى إخفاء ما في نفسه من رغبة الزواج من [زينب]، وعلى [تحريم ما أحل ما الله له] لمرضاة أزواجه، وعلى موقفه من [ابن أم مكتوم].
وعتاب الرسول توجيه، وإرشاد، وردٌّ لما هو أولى، وأفضل؛ ليواكب كماله الذاتي، وفضله العملي.
هذا الاستدراك الرباني لممارسات رسوله البشرية تنقية مباشرة لاجتهاداته المفضولة.
لقد تلقاها الرسول بثقة، وأشاعها بين الناس، وأصبحت قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة.
ولم يتأفف، ولم يأنف؛ لأنه بشر، يوحى إليه. فتبًّا لمن أطروه فوق ما يريد، وظنوا أنهم بهذا الإطراء يرضونه في قبره.
لقد بلغت المعتقدات السيئة بأصحابها حدًّا لا يطاق، ولم تكن سمة عصر، إنها سمة أمة.
ويكفي شاهدًا على الغلو موت [ابن تيمية] بالسجن، لمجرد أنه بدَّع مَن شدُّوا الرحال لزيارة القبور، ومنها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بحديث قطعي الدلالة والثبوت.
- فهل أحد منا يرحب صدره للمراجعة، والمساءلة، والنقد؟
إننا حين نصر، ونستكبر استكبارًا على آرائنا الخاطئة نصعِّد الخلاف، ونوسِّع الفجوات، ونفرِّق الدين، ونكون شيعًا، يضرب بعضنا سمعة بعض، بل قد يضرب بعضنا رقاب بعض.
ولو أراد الله لرسوله أن يكون مصيبًا بكل فعل، منتصرًا في كل موقف، موافقًا لمراد الله في كل اجتهاد، لكان. ولكن الله أراد أن يعطينا درسًا في خطأ الاجتهاد.
وكما أراد جل وعلا لسننه الكونية وإرادته الكونية ألا تتبدل، وألا تتحول، أراد لإرادته الشرعية التبدل، والتغير. ومن ثم أعطى رسوله مساحة بشرية، يكون فيها محتاجًا إلى اجتهاده الشخصي، وتشاوره مع صحابته:- {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، [أشيروا عليَّ]. وكيف يتأتى لموحد أن يطري الرسول فوق ما يريد، ويغلو فيه، كغلو النصارى بابن مريم، وغلو الشيعة بآل البيت، وغلو المتصوفة بأوليائهم.
لقد غيَّر - بأبي هو وأمي - منزله في [بدر] بمشورة بشرية، لا بوحي رباني.
وخرج، وحلق رأسه حين تردد قومه بمشورة زوجته.
وتراجع عن النهي عن تأبير النخل بتجربة الفلاحين.
وفي النهاية قال:- [أنتم أدرى بأمور دنياكم].
وحين خالف رأي [عمر] في عدد من المواقف نزل القرآن مؤيدًا لرأي [عمر].
هذا [العتاب] وهذه [المراجعات] جزء من التشريع الأخلاقي، والسلوكي، ولو وعاها المتصدرون للفتيا، والقول في الشأن العام، لضيق الخناق على كل التجاوزات، والممارسات الفردية.
{عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}، {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ}، {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم}، {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
آيات تتلاحق لترشيد مسار الرسول، ومع هذا لا يتعارض مع [العصمة]، {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}.
إنه في النهاية بشر، قد يجتهد، ثم لا يكون اجتهاده مواكبًا لمقاصد الشريعة، ولأنه بشر جاء الوعيد:- {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.
لقد اصطفاه الله من البشر، وظل يحمل إمكانيات البشر، ولكنها بشرية متميزة مكتملة الخَلْق، والخُلُق.
في تاريخنا رجالات علم، وفكر، وسياسة، لا تأخذهم العزة بالإثم، جهدهم منصبٌّ على البحث عن الحق، لا عن الانتصار، ولا يسوؤهم حين يُجري الله الحق على أيدي خصومهم.
الإمام [الشافعي] -رحمه الله- يهمه الحق، وليس معنيًّا بأن يجريه الله على يده، أو على يد خصمه.
لو فعلنا، لوعينا، وعقلنا، ولكُنَّا خير خلق الله على أرض الله.