عبده الأسمري
عندما كنا صغارًا كنا نتناوب على الصعود لأعلى المنازل لسماع صوت الأذان وإطلاق بشائر الإفطار للعائلة. لم تكن هنالك مخيمات إفطار للصائمين ولا وحدة اجتماعية فالجميع مكفول بحق التراحم والتعاون وكأن «الكل» على سفرة واحدة فكل أطباق الجيران معلنة من خلال التناوب على تبادل الأطباق في جو بريء وعفوي خال تماما من «البهرجة والهياط» ولو دققنا في تلك الوجبات لوجدناها خالية من المكملات الحافظة ومن التوابل المعلبة التي زادت مساحات المرض وجعلت المستشفيات حاليا تعمل خطة منفصلة فقط لاستقبال المرابطين على حافات السفر بالساعات لملئ بطون خاوية بشكل بائس يناقض كل معاني «الحمية والصحة».
كانت الليالي مكتظة بالسهر النظامي ممتلئة بالرحمة مليئة بالسكينة التي تنطلق من أصوات تلفاز في مساحة «فضائية محفوظة» تجعل البرنامج أو المادة المتلفزة وجبة مقسمة بالتساوي بين كل العائلة ودرسًا مفهومًا يشكل «سالفة مثلى» بين مجاميع الأسر ومجمعات الجيران.
تهاجر الشحناء وتغادر البغضاء القلوب بشكل منظم فتتحول ليالي رمضان إلى محافل للولائم الأسرية الغنية بالمثالية الاجتماعية فالكل محتفل بالشهر والجميع مخطوف إلى لحن سماوي تتناقله مآذن الجوامع الصغيرة المشبعة بأنفس مسرورة بعبادة قيام استثنائية في هدوء وسكينة تعم الأرجاء لا تقطعها أصوات المنبهات ولا صدى الموسيقى ولا صيحات التفحيط.. الكل يقوم بدوره في خطة دينية بشرية كاملة النقاط المدرب فيها «الذات» لأن المؤثرات تكاد تكون معدومة فقد علم كل أناس مشربهم في تركيبة حياة شكلت إرثا كان حاضرا قبل عقد ونصف وعقدين ماضية..
فما الذي تغير هل هي الأنفس أم الحياة وهل سيظل شريط الذاكرة حيلة للهروب من واقع مشحون بالفوضى أم طريق لإعادة الحسابات.. وهل سنتعلم من بؤس الجوع وسطوة الفقر التي نراها في دول مجاورة حتى نفهم أن رمضان مدرسة للروح وأكاديمية للنفس تسمو بالسلوك وتعلو بالتصرف حتى نوظف شعيرة «الصوم» كما ينبغي بعيدا عن الاتكاء والانغماس في «عبادات مؤقتة» ثم نعاود الركض لساحات الجهل.. هل يمر رمضان دون اعتبار لأهداف ربانية سامية من هذا المحفل الديني تندرج تحتها عشرات الفوائد والعبر حتى نجعل الصيام «فرصة سانحة» للتعديل و»منفذ آمن» للخروج من عنق «التسيب السلوكي» و»الفوضى المجتمعية».
في عقلي أسئلة متعددة.. هل ستكرر نسخ المهازل الاجتماعية من تصوير سفر الإفطار والوجبات التي باتت «عدوى غارقة من البؤس» وهل قامت الأسر بعمل إفطار والذهاب به إلى الأحياء الفقيرة والمعروفة بالاسم في المدن وهل وضعت الأسر مخصصا ماليًا لكسوة المساكين والأهم من كل ذلك هل سيكون رمضان «فلترة» لعدد من سلوكيات الغيبة والنميمة والسوء.. هل سيكون جسرا للارتقاء بالسلوك والتعامل أم أن الجاهلين سيسقطون من عليه لأنهم لم يجيدوا المضي قدما. وهل تثقف فاعلو الخير وهم يرون فلول الصائمين وهم فرحين مستبشرين بعطايا الرحمن من مأكل ومشرب وهل سيعممون التجربة بعد شهر الصيام أم أن الخير في أجنداتهم «مؤقت»!