عبدالوهاب الفايز
بعد مضي سنوات عديدة رأينا خلالها كيف أنجزت الدراما الرمضانية، المنتجة بالأموال الخليجية، مهمة (تشويه الإنسان الخليجي) لتقدم صورة نمطية سلبيه للإنسان والمكان، والإنسان يبدو الأقرب بتصرفاته إلى الأبله، مرتبك في حركاته، لا يعرف أدب الحديث، وحتى المحتوى الدرامي فيركز على مظاهر سلبية مثل صراع الأشقاء وخلافات أسرية مستمرة، والأبناء يشتمون الآباء والأمهات، وإدمان مخدرات.
مثل هذه الدراما هي نتاج البيئة الإعلامية الجديدة التي استلمت زمام الأمور فيها المؤسسات الإعلامية التجارية التي أصبحت موجهة من قبل قلة من شركات الإعلان التي تحتكر الصناعة وتواجهها إلى غايات السوق، وطبيعي أن لا تهتم أو لا تقف عند الاعتبارات الوطنية أو الأخلاقية. المهم هو تقليل تكلفة الإنتاج، وهذا يعني اللجوء إلى الأدب الرخيص للبحث عن القصص والحكايات الشعبية، وتسليمها إلى (هواة) كتابة السيناريو والحوار والإخراج.. وبالتالي تخرج علينا هذه المنتجات، مثل بضائع محلات: (أبو ريالين!).
يخرج إلينا هذا المنتج الهزيل رغم المبالغ الكبيرة التي تدفعها محطات التلفزيون لشراء المسلسلات والبرامج الرمضانية، وبحبوحة النعمة السنوية التي تهبط على شركات الإنتاج والإعلان والسبب يعود لعدم قدرتنا على (توطين) صناعة وطنية للإنتاج الدرامي ترعاها شركة أو شركات مساهمة متخصصة تكون قاطرة هذه الصناعة.
هنا في المملكة.. قبل أكثر من خمسة عشر عاماً كنت مديراً ومشاركاً وشاهداً في حوارات ونقاشات وطنية ساهم فيها فنانون ومنتجون ومخرجون وممثلون.. وكان الهدف هو التنبيه إلى مشكلة قادمة، وهي: ضياع البيئة المنتجة للدراما محلياً بسبب تشتت جهود الممثلين والمخرجين، فكل واحد أسس شركة إنتاج. ومع احتدام المنافسة على الكعكة، بدأنا نرى الانحدار في مستوى الإنتاج ودخول أنصاف الهواة الذين وجدوا العمل يسيراً في مجالٍ لا ترعاه جمعيات مهنية تنظيمية، ولا تحكمه أدبيات وأعراف صناعة، فأصبح متاحاً لمن: لا مهنة له.
كان أحد الحلول العملية المقترحة حِينَئِذٍ، حتى لا نصل إلى مرحلة تضييع الموارد وتشتيت الجهد، هو ضرورة إنشاء شركة وطنية للإنتاج الدرامي التلفزيوني والسينمائي، لتكون ذراعاً وطنية قادرة على التصدي للاحتياجات الوطنية الإستراتيجية والآنيّة الملحة، ولتكون مصدراً لتوليد فرص العمل وحاضنة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
كان لدينا مئات الملايين التي تُعتمد سنوياً في القطاع العام للأنشطة الإعلامية، هذه نصفها كفيل بضمان نجاح الجدوى التجارية لهذه الشركة.
الآن، وفِي ظل غياب مثل هذه الآلية، نسأل: ما هو العائد الوطني للأموال الكبيرة التي صُرفت ومازالت تصرف على الإنتاج التلفزيوني؟.. ما هي القيمة المُضافة التي فقدناها في قطاع الخدمات في اقتصادنا الوطني؟.. هل عائدها يوازي مكاسب الاقتصاد التركي من الدراما التركية التي أضافت سنوياً مئات الملايين من الدولارات نتيجة بيع المنتجات الإعلامية والصناعية، وكانت وسيلة مهمة لـ(الدبلوماسية الناعمة) التركية، وترويج للسياحة.. والأخطر؟.. ما هي المدخلات النفسية والفكرية التي تتلقاها الأجيال الصغيرة من هذه المنتجات الدرامية الخاوية؟
في حال الأجيال الناشئة، هذه النوعية من الدراما خطيرة، لأنها تصور التجربة الإنسانية على أنه مسار صراع دائم بين الخير والشر، وهذا الصراع ضروري للحصول على (المكاسب السريعة) في الحياة.. هذه الدراما تعزِّز الأرضيّة النفسية والفكرية للتفاعل مع المحتوى الاجتماعي المتدفق الذي توفره وسائط التواصل الاجتماعي الذي أغلبه يقدم الحياة على أنها (رحلة متعة وترفيه.. حياة نجوم)، وهذا طور نظرية الإشباع العاجل، instant gratification لمتطلبات الحياة.
مشروع التحول الذي نسعى إليه، وهو تحول انتظرناه ونحتاجه، يقود إلى تحول الإنسان من حقبة الاقتصاد الريعي إلى حقبة إنتاج الثروة، ولكي نحقق النتائج التي نتطلع إليها علينا الاهتمام بإدارة التحوّل والتطوير الذي يستهدف الإنسان والمجتمع، تطوير المهارات الفكرية والنفسية لقبول التحول، هذا هو الجهاد الأكبر.. مع الأسف البيئة الإعلامية تقود المعركة المضادة!!.