د. حمزة السالم
الزكاة كانت أحد أهم الأسباب وأقوى العوامل التي اثرت في فهم الربا عند الفقهاء، والتي بمجموعها وجهت تفكير الفقهاء للاحتياط والعمل -بما ظنوه اجتهادًا خاطئًا- أنه يحقق حكم جريان الربا في الأوراق النقدية. فألزموا أنفسهم بما هو ليس لازم، فقرنوا الربا بالزكاة، ثم حرصوا على إلحاق النقد بالذهب، وذلك لعدم تأصيل السلف لعلة الزكاة، فأجروا الربا في النقد كوسيلة لتحقيق ضمان الوصول للزكاة.
فضَعُف التأصيل الفقهي للزكاة عموما، وكثرة الاختلافات في أحكامها، مع توقف الاجتهاد، تسبب على حكم وجوب زكاة النقود الحديثة، فأخضعه للخلاف، في بدايات قدوم النقد الورقي للعالم الإسلامي.
وقد كانت النقود هي غالب أموال الناس قبل قرن تقريبا -بخلاف اليوم-، كما أنها كانت سندات ذهبية في الواقع، كون البنك المركزي ملزوم باستبدالها ذهبا. فخشى الفقهاء أن تُترك الزكاة فحرصوا على إلحاق النقود بالذهب والفضة لتأخذ حكم وجوب زكاتها وبالتالي جاء الحكم بربويتها تبعا لذلك.
وبغض النظر عن وجاهة الرأي الذي قال بربوية النقد عندما كانت مجرد إيصال بالذهب، إلا أن ربط حكم الربا بحكم الزكاة، هو عجيبة من عجائب فقه المتأخرين، وتشديدهم على الناس بغير حق. (والمتأخرون هنا، هم من لم يلحق الصحابة راشدا).
والنزعة للتحريم والتشديد هي من خصال معشر يهود، فأرسل الله رسوله ليُحل لنا ما حرم اليهود والمشركين بغير حق وبرهان من الله مبين. قال تعالى في وصف رسالة نبيه: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}.
فالأمر بالزكاة والنهي عن الربا، أمران مختلفان تماما، بالنصوص الشرعية، ومتضادان في التأصيل الشرعي، فالممنوعات ضد المأمورات، ومتناقضان في الأصل، فالوجود أصل الزكاة، والعدم أصل الربا، والوجود نقيض العدم.
ومع مرور الزمن، والتكتم على ضعف التأصيل الفقهي لربوية النقود الحديثة، خوفا من تجاهل الناس للفتوى فتضيع الزكاة، نُسي أصل سبب الاحتياط وأصبح جريان الربا مطلبا شرعيا! فسبحان الله كيف تصير الكبيرة الممنوعة المعدومة، مطلبا شرعيا. فترى بعضهم يصر على ربوية النقد الجديث فيقول: فلا ربا إذن. فالحمد الله وهل يجب على المسلمين إيجاد الحرام، فيحتجون بعدمه لتحقيق وجوده، رغم أن أصل الربا هو العدم، ووجوده محدث مما أحدثه فساد بني آدم. وما كان الانقلاب في المنطق والفهم ليكون، لو أننا التزمنا بشرع الله قولا وعملا واستنباطا. وصدق الله {ولَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلَالٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}.
وقد مضت سنة الله أنه لا يتألى أحد عليه سبحانه، في أحكامه ألا ويُري خلقه فيه العجائب. فكانت عاقبة الأمة بأن منعت الزكاة في الأمور الواجب زكاتها، وأوجبت الزكاة على أموال لا زكاة فيها، مما حير عقول النشأ، وأضحكهم من الفتاوى، واظهر الفساد، وعطل ديناميكية الاقتصاد الحديث وحقق أضرارًا بالسوق، وقُطِعت موارد ضخمة للزكاة مقابل أخرى ضيقة، فضلا عن كونه شرك في الربوبية، كونه تحليل لحرام وتحريم لحلال. وصدق سبحانه {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}.