رقية سليمان الهويريني
كان الصوم عرفاً عند الشعوب قبل أن يصبح عبادة في الديانات، فمن سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، نفهم المراد بالذين من قبلكم أنهم أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والجاهلية وغيرهم، فالصيام عبادة قديمة، كانت في الأمم السابقة، وانتقلت من أمة إلى أخرى، وإن اختلفت في كيفيتها إلا أن هدفها واحد وهو الشعور بالألم، فقد كان لليهود صوم فرضه الله عليهم، يبتدئ من قبل غروب الشمس بقليل إلى غروب شمس اليوم التالي، وهو يوم كفارة الخطايا، وتذكار لنجاتهم من غضب ملك الأعاجم.
أما النصارى فكانوا يتبعون صوم اليهود، حيث شرع رهبانهم صوم أربعين يوماً اقتداء بالمسيح؛ ويُشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فيتركون الأقوات القوية والمشروبات فقط، ويتناولون طعاماَ واحداً في اليوم. وكان في الجاهلية قبل البعثة النبوية صيام، كصيام قريش لعاشوراء أو الصيام حين يرتكبون الذنوب! وفي بداية الإسلام كان الصيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ حتى نزلت آيات صيام شهر رمضان كاملاً.
وفلسفة الصيام تختلف عند كل ديانة وتتغير في كل زمان، بينما تبقى فلسفته ثابتة في الدين الإسلامي وعند المسلمين، فهي تنبعث من مبدأ الرحمة التي تنشأ عن الألم، وهذا سر اجتماعي عظيم للصوم؛ حيث يعد الجوع أحد أنواع الألم كونه يبدد الطاقة ويوهن القوى؛ ومنذ الأزل يعد البطن نكبة الإنسانية، وفي تقليل أهمية الشبع والقوة إبطالٌ لجبروته، وتحقيق العدالة بين الفقراء والأغنياء وبين الأقوياء والضعفاء، وهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس وبالتالي إعلاء قيمة الرأفة بالفقراء والشفقة على المحتاجين والعناية بالضعفاء، وهنا دلالة أن الحياة السليمة تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور ويتعاطونه بإحساس الألم الواحد لا بإحساس الأهواء المتعددة. والصوم يقوم بدور التهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء بشعور واحد، وحسّ واحد، وطبيعة واحدة، وهو معنى راقٍ لمعاني الإنسانية.
رمضان مبارك، جعلنا الله وإياكم من صوامه وقوامه.