د. عيد بن مسعود الجهني
بالرغم من اتساع مرفق السلطة القضائية في دول المنظومة الدولية ووجود قضاة تعينهم الدول في كل درجات التقاضي للحكم فيما اختلف فيه أصحاب الحقوق، إلا أن للتحكيم دوراً مهماً في حياة الأفراد، إذ كثيراً ما يلجأ المتنازعون إلى التحكيم بدلاً من المحاكم، وذلك لسرعة البت في قضاياهم وعدم التقيد بالإجراءات القانونية خاصة في المسائل التجارية التي تتطلب السرعة والاستعجال والسرية في البت فيها، وهذا بسبب مرونته، إذ إن مرونته متمثلة في العمل على سرعة حل المنازعات مع الإبقاء على العلاقات الودية بين طرفي أو أطراف الخصومة.
ومما يدل على أهمية التحكيم اهتمام الأمم المتحدة بالتحكيم التجاري، الأمر الذي حدا بوضع معاهدة دولية بشأن الاعتراف وتنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية، وذلك في مؤتمر الأمم المتحدة للتحكيم التجاري المنعقد في نيويورك في الفترة من 20 مايو ـ 10 يونيو 1958م ثم من بعدها وقعت دول مجلس أوربا الاتفاقية الأوربية للتحكيم في جنيف في 21 أبريل 1961م.
وباستعراض نصوص تلك المعاهدات الدولية بشأن استقلالية اتفاق التحكيم، واتفاقية واشنطن لعام 1965م، نجد أنها جميعاً لم تنص صراحة على قبول مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم، إلا أنه يمكن استخلاصه بشكل ضمني، لأن تلك المعاهدات الدولية الرئيسة أقرت النتائج المترتبة على مبدأ الاستقلالية بما يعني ضمناً اعترافها بهذا المبدأ وإن كان ليس اعترافًا صريحًا.
وقد يكون الاتفاق طبقًا لعقد يوضح فيه إرادة الخصوم ونزولهم عند اللجوء إلى القضاء وحل نزاعهم عن طريق محكم أو أكثر يفصلون فيه بحكم ملزم للمتخاصمين.
وهذا الاتفاق قد يكون مضمنًا عقدًا يوضح فيه ويطلق عليه «شرط التحكيم أو عقد التحكيم» أو عند نشوء نزاع معين قائم بين الخصوم ويطلق عليه - في هذه الحالة - « اتفاق التحكيم أو مشارطة التحكيم».
وسواء كان الاتفاق على التحكيم قد ورد في العقد وهو ما يسمى بشرط التحكيم أو لم ينص العقد على ذلك وعندما يتبين الخلاف اتفق المتعاقدون على التحكيم فإنهم يضعون مشارطة التحكيم «وثيقة التحكيم».
وفي جميع الأحوال فإن هذه المشارطة يجب إيداعها لدى الجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع، ويجب أن تكون هذه الوثيقة موقعة من الخصوم أو من وكلائهم الرسميين المفوضين ومن المحكمين، وأن يبين بها موضوع النزاع وأسماء الخصوم وأسماء المحكمين وقبولهم نظر النزاع وأن ترفق بها صور المستندات الخاصة بالنزاع.
وتنص المادة الثامنة من نظام المصالحة والتحكيم لغرفة التجارة الدولية على أنه: «إذا اتفق الطرفان على اللجوء إلى تحكيم غرفة التجارة الدولية، فإنهما يقبلان بذلك الخضوع لهذا النظام، وإذا رفض أحد الطرفين المشاركة في التحكيم أو امتنع عن ذلك، تم التحكيم رغم رفضه أو امتناعه».
يتضح أن التحكيم في العصر الحاضر أصبح سمة من سماته البارزة وعلامة من علاماته الظاهرة، فقد تعددت الحاجات وتشابكت العلاقات وأصبح للعقود مسميات عديدة تعكس كثرة النشاطات لا في داخل الدولة وحدها ولكن في مجالات العلاقات بين الدول، إذ أصبح الاتصال سهلاً والحاجات متطورة ومتعددة والتجارة والاستثمار أصبحت أساسًا للاقتصاد النامي في جميع الدول على السواء، وزاد من ذلك تطور الصناعة وتقدمها، مقدمة للدول والمجتمعات ما يلبي رغباتهم التي لا تنقطع.
وقد ترتب على هذه الكثرة من العقود والعلاقات، الاختلاف بين المتعاقدين في تفسير عقودهم وما يترتب على ذلك من طرق باب القضاء للمطالبة بحق أو لدفع تفسير جائر لنص من نصوص العقد، وقد كان لازدهار التجارة في العصر الحديث زيادة في العقود والمشارطات، ونتيجة لاختلاف اللهجات واللغات زاد الخلاف، وأصبح الأمر يحتاج إلى علاج لذلك، إذ الأمر يتطلب سرعة في البت مع بقاء العلاقات قائمة على الود حتى لا يؤثر فيها ما كان يؤثر في اللجوء إلى القاضي وما يترتب عليه من دفاع ودفوع، ومن تأخير في الفصل في النزاع، وقد تفنن في ذلك الناس، كما يترتب عليه عدم التقيد بالنصوص القانونية ما دامت هذه النصوص ليست من قواعد النظام العام أو من المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم.
ولذا، فإن التحكيم التجاري الدولي أصبح في عصرنا الحاضر قضاءً أصلياً للمنازعات التجارية الدولية، هذا لأن اللجوء إلى التحكيم من أهم وسائل فض المنازعات في التجارة الدولية.
وقد ازدادت الحاجة إليه أكثر مع ازدياد التقدم العلمي والتكنولوجي وازدياد الاتصالات وما يتبعها من ازدياد المنازعات.
والله ولي التوفيق،،،