يعتبر المجتمع الدولي أوكرانيا بشكل تقليدي دولةً ذات إمكانات كبيرة في القطاع الزراعي ومصدراً هاماً للأغذية في العالم، وإذ إنها اليوم تتصدر في السوق العالمية للحبوب (بما في ذلك القمح والشعير) وعباد الشمس (وزيته) والذرة وتتميز بالمؤشرات المتزايدة في حجم صادرات اللحوم ومنتجات الألبان.
ومع ذلك، منذ 85 عاماً شهدت أوكرانيا (المعروفة حينئذ بسلة الخبز أوروبا) وشعبها المسالم بأبشع مأساة وطنية وأكبر كارثة إنسانية في تاريخ البشرية -المجاعة الجماعية الكبرى «هولودومور» (تعني ترجمتها «القتل بالتجويع») التي حسب التقديرات المختلفة أزهقت مابين 7 ملايين و10 ملايين من الأرواح البريئة؛ حيث قام أثناء عامي 1932-1933م النظام الشيوعي الشمولي بمصادرة المواد الغذائية من الناس عنوة ومحاصرة القرى والأقاليم محاصرة تامة بغية حظر الدخول والخروج من المناطق الأوكرانية المشمولة بالمجاعة، إضافة إلى منع التجارة القروية وممارسة المضايقات والملاحقات ضد الرافضين لتلك الإجراءات-، الأمر الذي أدى إلى خلق ظروف معيشية مأساوية مهدت لإبادة الأوكرانيين إبادة جسدية جماعية.
واستهدفت هذه العملية التي أشرفت عليها قيادة الاتحاد السوفياتي مباشرة إلى انتقام من الشعب الأوكراني وعنصره الاجتماعي الرئيسي -طبقة الفلاحين على مقاومته لسياسة جوزيف ستالين المتمثلة في نظام العمل الجماعي القسري ونزعته الصارحة في إقامة الدولة المستقلة الخاصة به، التي اتسع نطاق نضال التحرر الوطني من أجلها خلال فترة 1917-1921م.
وقامت السلطات البلشفية في إطار حملتها التجويعية ذات الطبع الاصطناعي في أوكرانيا بوضع الخطة العامة لتخزين الحبوب على المستوى العالي غير القابل للتنفيذ واقعيا (وأمكن تنفيذ هذه الخطة في حالة اتخاذ التدابير القمعية الهادفة إلى المصادرة الكاملة للحبوب والبذور عند الفلاحين فقط)، وإدراج المناطق السكنية والمزارع التعاونية والمجالس القروية إلى قائمة «اللوحات السوداء» الذي كان المقصود به منع سكانها من مغادرة أراضيها وفرض القيود على حرية حركة فلاحين باحثين عن الطعام، وحظر تبادل المراسلات، وفرض «العقوبات المادية»، وإجراء عمليات التفتيش المنتظمة لمصادرة الحبوب ومخزونات البذور والممتلكات والملابس وجميع المود الغذائية والأطعمة الجاهزة.
وكان من بين الأدلة الواضحة على الطبيعة الوحشية للتدابير المتخذة ما يسمى بـ»قانون السنابل الخسم» الصادر في 7 أغسطس عام 1932م الذي جازت بموجبه مقاضاة حتى الأطفال الذين التقطوا سنابل القمح في الحقول بعد جني المحصول فيها.
وأدت المجاعة الكبرى ليس إلى التصفية الجسدية للملايين من الناس وقطع الأواصر الاجتماعية والاقتصادية الشعبية والجرح المعنوي والنفسي العميق في وعي الأمة الأوكرانية فقط فحسب، بل الانحراف عن نمط الحياة التقليدية للفلاحين الأوكرانيين التي تميزت على مدى قرون طويل بالتمسك بالعادات العائلية وسلوك التدين في المجتمع وتناول الأطعمة الشعبية المتنوعة وانتقال المعارف حول ممارسة الحرف اليدوية من الآباء إلى أبنائهم. في الوقت نفسه، جرت عملية إسكان أوكرانيا بالعناصر العرقية الغريبة من أجل تدمير الوحدة الديمغرافية والتغيير الجذري في التركيبة العرقية لسكانها وكذلك ترحيل ممثل الأمة الأوكرانية إلى جميع أنحاء أوروبا الشرقية وآسيا (ونتيجة للمجاعة الجماعية وإجراءات التهجير، ازداد عدد السكان غير الأوكرانيين بـ5.6 ملايين نسمة).
قد فتح إعلان استقلال أوكرانيا في عام 1991م الآفاق الواسعة لإستعادة العدالة التاريخية بحق ملايين الأبرياء القتلى. وبدأت المجتمعات المحلية في المدن والقرى الأوكرانية تقوم بإعداد قوائم أسماء ضحايا المجاعة الجماعية الكبرى وترتيب المقابر الجماعية لضحايا المأساة ووضع الآثار والنصب التذكارية وجمع وثائق أرشيفية قوية الحجية وروايات شهود العيان وتنظيم دروس الأسى في المدارس وإقامة المعارض المواضيعية عن هذه الكارثة. وفي عام 2009م افتتح في عاصمتها مدينة كييف المتحف الوطني «النصب التذكاري لضحايا المجاعات الجماعية في أوكرانيا». وكذلك تم إصدار الكتاب الوطني لذكرى ضحايا للمجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932-1933م في أوكرانيا وهو فريد من نوعه من حيث مضمونه وحجمه وتأثيره الاجتماعي.
ويُعتبر كل يوم السبت الرابع في نوفمبر يوماً مخصصاً لإحياء ذكرى ضحايا المجاعات الجماعية في أوكرانيا وبهذا الصدد تحيي سفارة أوكرانيا لدى المملكة العربية السعودية مع الشعب الأوكراني كله بإحياء ذكرى هذه الصفحة المأساوية من التاريخ الوطني ببالغ الحزن، مناشدة المجتمع الدولي للإطلاع المستمر على أسباب وطبيعة وآثار هذه الجريمة الفظيعة والحفاظ على الذاكرة عنها كضمان لعدم تكرارها في أيام الحاضر والمستقبل.
** **
بقلم/ فاديم فاخروشيف - سفير أوكرانيا لدى المملكة