الرواية شكل من أشكال الحداثة الأدبية والاجتماعية التي حظي بها المجتمع السعودي، فهي النص الوحيد القادر على استيعاب حراك المجتمع وتفاعلاته، كما أنها النص الذي يقدم النمط الحواري في كيفية تداخل الأنساق الاجتماعية عبر المحكي ذي الخلفيات الاجتماعية المختلفة. ولا يمكن لنا الحديث عن الرواية عموماً والرواية النسوية على وجه التحديد بمعزل عن التحولات الاجتماعية والسياسية للمجتمع السعودي .
والراصد للرواية السعودية عموماً يجد أنها مرت بأربع مراحل زمنية شكلت الإطار التاريخي لتطور الرواية ، وهذه المراحل هي:
مرحلة النشأة ومرحلة التأسيس ومرحلة الانطلاق ومرحلة التحولات الكبرى.
استهلت الرواية السعودية مسيرتها في مرحلة النشأة بصدور رواية (التوأمان) لعبد القدوس الأنصاري وذلك في عام 1930م. وكأي بداية فقد جاءت رواية (التوأمان) ضعيفة من حيث مستواها الفني، ومحافظة في رؤيتها، حيث كان موضوعها الأساسي يعالج مشكلة العلاقة الحضارية بين الشرق والغرب. ورغم أهمية الموضوع، فإن الصراع قد حسم فيه لبيان عظمة الشرق وفساد الغرب دون مراعاة لنمو الشخصيات وفقاً لأصول الفن الروائي .
وتأتي رواية (فكرة، 1948م) لأحمد السباعي بوصفها الرواية الثانية التي بدت أكثر تعبيراً عن التطلعات الاجتماعية الحديثة وتلي هذه الرواية رواية (البعث، 1948م) لمحمد علي مغربي , وهي تطرح إشكالية العلاقة الحضارية مع الآخر من خلال أسامه الزاهر الذي اضطره مرضه الى أن يبحث عن العلاج في خارج البلاد , وتنتهي هذه المرحلة برواية (الانتقام الطبعي، 1954م) لمحمد الجوهري.
وقد تميزت هذه المرحلة بطولها الزمني بدءاً من عام 1930م إلى 1954م. ورغم هذا الطول النسبي فقد اتسمت هذه المرحلة بقلة الإنتاج الروائي، بالإضافة إلى ضعف المستوى الفني, كما غلبت على هذه الروايات النزعة الإصلاحية الاجتماعية.
رواية (ثمن التضحية) لحامد دمنهوري التي صدرت في عام 1959م، تمثل الإصدار الروائي الأول لمرحلة التأسيس حيث شكلت قفزة فنية وبداية واعدة للتطور الفني في صناعة الرواية. فقد بدت أكثر الروايات استعداداً لتقديم رؤية جريئة مفارقة للواقع ، وهي رواية ترصد ملامح التغير الاجتماعي في مكة في مرحلة الأربعينيات الميلادية من خلال نمو الشخصية الرئيسية أحمد منذ طفولته وحتى ذهابه إلى القاهرة لمواصلة دراسته. وفي هذه المرحلة يصدر حامد دمنهوري روايته الثانية (ومرت الأيام 1963 م)، وإذا كانت قد حرصت الرواية على تقديم الملامح الاجتماعية في مكة وجدة من خلال سير الأحداث، فإنها كانت أقل من الناحية الفنية، حيث جاءت متراجعة عن المستوى الفني الذي بشرت به رواية (ثمن التضحية)، وفي حقبة الستينات يظهر إبراهيم الناصر بمجموعة أعمال روائية، ولعله الكاتب الأوحد الذي امتدت تجربته منذ أوائل الستينات وحتى الوقت الحالي ، وفي هذه المرحلة أصدر روايتين هما (ثقوب في رداء الليل، 1961م)، والرواية الثانية (سفينة الموتى، 1969م ) ، وتسجل فترة الستينات الميلادية أول حضور للرواية النسائية في المشهد الروائي السعودي.
وكانت بداية ظهور الرواية النسائية السعودية في أوائل الستينات الميلادية عندما بدأت سميرة خاشقجي تصدر رواياتها من خارج المملكة. وهنا يبرز الفارق الزمني بين الإنتاج الذكور والنسوي.
30 عاماً تفصل بين صدور رواية الرجل وصدور رواية المرأة
تزامنت هذه المرحلة مع بداية التعليم النظامي للمرأة في المملكة ، ذلك الفارق الزمني بلا شك يعكس هيمنة الرجل على المشهد الثقافي السعودية ويظهر أثر التحولات الاجتماعية مجدداً ليعكس ارتباط الرواية بتلك التحولات ، مع الأخذ في الحسبان أن سميرة خفاجي كتبت رواية ناضجة بالمفهوم الأدبي في الوقت الذي لم ينضج التعليم بعد في المملكة لكي يؤتي ثماره الأدبية على المستوى النسوي ، وهذا ما يشي بأثر الثقافة الخارجية في البلدان العربية المتقدمة على المشهد الثقافي النسوي في المملكة ؛ مما أنتج محاولات فردية تعكس ثقافة أفرادها بعيداً عن السياق الثقافي التقليدي في البلاد ، فتظهر الهوية الوطنية بدلاً من الهوية الثقافية وهذا ما يجعل التأريخ للرواية النسوية في المملكة خارج إطار السياق الثقافي المنطقي للتحول التعليمي في البلاد والذي أقر تعليم الفتاة في تلك الفترة ولم يؤت أكله بعد .
وبالنظر في روايات سميرة خاشقجي وهدى الرشيد وهند باغفار الصادرة في فترة الستينات والسبعينات الميلادية نجد أعمالاً تبتعد عن الهوية السعودية الثقافية رغم نسبتها إلى الرواية السعودية (بحكم انتمائهن الوطني لا الثقافي)، والعديد من الكاتبات المتقدمات زمناً من أمثال فوزية أبو خالد وشريفة الشملان، يظهر عليهن أثر الثقافة الخارجية التي تبتعد عن بيئتهن الاجتماعية المحلية. فسميرة خاشقجي، على سبيل المثال معظم رواياتها تدور في سياق غير المجتمع السعودي مثل رواية (ذكريات دامعة) أو رواية (بريق عينيك). وحتى الروايات، مثل (قطرات من الدموع) التي كتبتها عن المجتمع السعودي لا تعالج التكوينات الاجتماعية بواقعية شديدة الخصوصية والصلة بالمجتمع السعودي بكافة تفاصيله.
ولا تخرج رواية (البراءة المفقودة، 1972م) لهند باغفار، ورواية هدى الرشيد (غداً سيكون الخميس 1977م)، وهما روايتان صادرتان في فترة السبعينات الميلادية، عن معالجة بعيدة عن أجواء البيئة السعودية، حيث تدور أحداث الروايتين في بيئتين خارجيتين. وفي المقابل نلحظ في الروايات النسائية السعودية التي صدرت في فترة التسعينيات الميلادية وما بعدها تغيراً جوهرياً، حيث نلحظ عمق المعالجات الروائية وقدرتها على إحداث صلة بالواقع اليومي السعودي ؛ فالمتأمل في رواية ليلى الجهني (الفردوس اليباب 1998م)، ورواية نورة الغامدي (وجهة البوصلة 2002م)، ورواية (بنات الرياض 2005م)، وهي الروايات الأولى لكل واحدة منهن، يلمس مدى أهمية التكوين الثقافي في توجيه مسار هذه الروايات لتبدو أكثر ارتباطاً بالواقع المحلي ، وأكثر صدقاً في التعبير عنه .
ولعل فترة الثمانينات الميلادية تعكس الظهور الحقيقي للرواية السعودية النسوية كنتاج للتعليم الذي أرخى سدوله في البلاد ، وكحتمية منطقية للتحول الاجتماعي والعلمي في المملكة ، وبالنظر إلى روايات كاتبات الثمانينيات من أمثال أمل شطا في روايتها (غداً أنسى 1980م)، ورجاء عالم في روايتها (4 صفر 1987م)، وبهية بوسبيت في روايتها (درة من الأحساء 1987م)، وصفية عنبر في روايتها (وهج من بين رماد السنين 1988م)، وصفية بغدادي في روايتها (ضياع والنور يبهر 1987م) ، فإننا نجد ثمرة التجربة النسائية باتت أكثر وضوحا ًمع أثر التعليم والتحول النسبي للمجتمع نحو الأخذ بأسباب التمدن ، غير أن تنامي الرواية النسائية وحضورها الفاعل تأخر إلى أواخر التسعينيات الميلادية مع الموجة الجديدة من الروايات التي وصلت إلى ذروتها في المقروئية بصدور رواية (بنات الرياض) في عام 2005م، حيث حققت أعلى مقروئية ليس بالنسبة للرواية النسائية فحسب، بل للرواية السعودية عموماً.
غير أن التحول المؤثر في مسيرة الرواية السعودية يأتي في فترة التسعينيات الميلادية وبداية الألفية الثالثة، من حيث احتلالها للمشهد الأدبي، ومن حيث قدوم أسماء من خارج الكتابة السردية التقليدية للإسهام في كتابة الرواية مثل تركي الحمد الأكاديمي، وغازي القصيبي الشاعر، ومن حيث تعزز تجارب سردية بشكل أكبر حضوراً مثل روايات عبده خال، وبروز أسماء روائية شابة مثل يوسف المحيميد، ومحمد حسن علوان، وعبد الحفيظ الشمري، وعبد الله التعزي، إضافة إلى ذلك، حضور المرأة بصفتها الروائية، مثل رجاء عالم، ونوره الغامدي، وليلى الجهني، ومها الفيصل، ونداء أبو علي، ورجاء الصانع، وبدرية البشر، وأميمة الخميس، وغيرهن.
وقد توقف إسهام المرأة تقريباً حتى مرحلة التسعينيات الميلادية عندما بدأت رجاء عالم في تقديم تجربتها المختلفة من حيث الكم وطريقة التناول وطبيعة الموضوعات الأثيرة لديها وخاصة رغبتها الدائمة في اكتشاف ما وراء سطور الواقع إذا جاز التعبير، فهي تنطلق من الواقع من أجل تحويله إلى أسطورة على طريقتها الخاصة كما في رواية (مسرى يا رقيب 1997 م)، أو في رواية (خاتم 2003م).
ويمكن للقارئ أن يتوقف أيضاً أمام التجارب الأحدث مثل تجربة ليلى الجهني في رواية (الفردوس اليباب، 1998 م)، ورواية نورة الغامدي (وجهة البوصلة، 2002م )، ورواية مها الفيصل (توبة وسُليى 2003 م )، ورواية نداء أبو علي (مزامير من ورق 2003 م )، ورواية رجاء الصانع (بنات الرياض 2005م)، ورواية بدرية البشر (هند والعسكر 2006م)، ورواية أميمة الخميس (البحريات 2006م)، وغيرها من التجارب الروائية.
وبعد الألفين الميلادية ظهرت الطفرة الأدبية للرواية السعودية بما فيها الرواية النسوية ، وأصبحت مساحة الطرح الجريء أكثر رحابة ، وفازت الروائية رجاء عالم بجائزة بوكر العالمية ليس بسبب مضمون روايتها (طوق الحمام) بل بسبب مساحة الحرية غير المألوفة في الطرح الأدبي المحلي كما يشير إلى ذلك غير واحد من النقاد ، ونسبة القرائية المرتفعة لروايتها في ظل ما توفره مواقع الانترنت من تفاعلية تعكس هذه الشعبية، وهذه النسب القرائية التي تراهن على تميز هذا الفن الذي بدأ ينمو ويتشكل ويجني ثماره ، حيث يعد العام 2006م عام الطفرة بالنسبة للرواية السعودية النسوية حيث صدرت 48 رواية منها 23 رواية كتبتها امرأة سعودية منها روايات مؤثرة مثل بنات الرياض لرجاء الصانع ، والبحريات لأميمة الخميس ، والآخرون لصبا الحرز ، وملامح لزينب الحفني ، والأوبة لوردة عبد الملك ، وسعوديات لسارة العليوي ، وما زالت الطفرة تستمر حيث صدر في العام 2011 م حوالي 37 رواية منها 24 رواية كتبتها روائيات سعوديات ، واستمرت الرواية السعودية تطرق موضوعات لم تكن مطروقة من قبل متماشية مع التحولات الكثيرة التي صاحب المجتمع السعودي ، وباتت الرواية أكثر نضجاً في ظل الاهتمام المتصاعد من قبل الجمهور ومن قبل الصحافة التي أفردت الصفحات النقدية والثقافية لهذا الفن الذي بدأ يأخذ بعداً ثقافياً ينحى به بعيداً عن مجرد التأريخ الزمني إلى التأريخ الثقافي ضمن النسق المنطقي لتطور الثقافة النسوية في المملكة العربية السعودية .
وبالنظر إلى الخطاب الروائي النسائي الراهن قد اتسم بخمس سمات نلمحها جلية في روايات للكاتبات السعوديات، السمة الأولى: الإلحاح على سؤال الكتابة، حيث صارت الكتابة شكلا من أشكال البوح الطويل مع اختلاف نبراته من حيث القوة والجرأة والمقاصد، ويأتي في إطار هذا البوح إعلان الرغبة الأنثوية الجامحة المطالبة بحق الكتابة، أما السمة الثانية فهي: تنامي الوعي بعناصر الرواية وفاعليتها في تشكيل خطاب الرواية حيث حدث تطور ملحوظ في كيفية توظيف بعض الجوانب الفنية في الرواية بل والخروج على شروط التبعية، مما يعني محاولة البحث عن لغة خاصة بجنسها، حيث هيمنت عليها الرغبة الجامحة لركوب موجة اللغة المحتقنة بتجسيد طبيعتها الأنثوية، واستعراض هواجسها وقضاياها ومكنوناتها.
والسمة الثالثة: نزوع الخطاب إلى توسيع نطاق مشاركته، المقصود به محاولة الكاتبات السعوديات المشاركة في توصيف وتحليل الأحداث الكبرى من حولها سواء عالميًا أو إقليميًا بعيدًا عن الانزواء في الجزء الخاص بقضايا المرأة، والسمة الرابعة : التكنولوجيا والخطاب الروائي؛ حيث إن المجتمع السعودي واحد من المجتمعات المواكبة للثورة المعلوماتية والتقنية الحديثة، ولقد بلغ اهتمام الخطاب الروائي النسائي الراهن منه بهذه التقنيات مبلغا كبيرا، وإن ذلك يعكس ظهور الرواية الرقمية والتي تلقى صدى واسعاً عند المتلقي المحلي .
أما السمة الخامسة والأخيرة للرواية النسائية في المرحلة الراهنة فهي: جماهيرية الخطاب الروائي، حيث يرى النقاد أن الخطاب الروائي تحول من النخبوية إلى الجماهيرية في مرحلته الراهنة، وإن كان الشكل القصصي تأثر كغيره من الأشكال بمحدودية القراءة بتأثير عوامل كثيرة أهمها: الثورة المعلوماتية والتحولات السريعة في إيقاع الحياة .
بقي أن نقول إن الرواية السعودية ثبتت أقدامها في أرضية زلقة ، وحققت مكاسب ثقافية تطرد مشكلةً خطاً متوازياً مع تطور المجتمع وفق تحولاته المختلفة .
** **
- منيف خضير الضوي
Mk4004@hotmail.com