د.عبد الرحمن الحبيب
في الوقت الذي يتراجع فيه النفوذ الإيراني بالمنطقة وتعاني قيادته من احتجاجات داخلية، جاء خطاب وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، كصدمة أربكت القيادة الإيرانية وجعلها تطلق خطابات متناقضة.. فمرة تؤكد أنها مع الاتفاق النووي، وأخرى تقول إنها قد تخرج منه، وثالثة تضع شروطاً للبقاء فيه.. إنها في حيرة بين خيار المواجهة أو خيار التراجع..
ففي الخيار الأول ستخسر أصدقاءها الجدد من الأوروبيين وتجابه حصاراً لا قبل لها به وعزلة دولية، وفي الثاني سيخسر نظام الملالي إيديولوجيته التوسعية وربما تتشكل إيران الدولة بدلاً من إيران الثورة.. الخيار الأول يصر عليه الحرس الثوري، والخيار الثاني تتقارب معه حكومة روحاني، والقرار بيد خامنئي.. وفي كلا الحالتين نظام الملالي أمام خسارة مؤكدة، وسيبحث عن أيهما أقل كلفة. فبعد خطاب بومبيو وما سيعقبه من عقوبات تتوالى ومن خطوات التحضير لتحالف دولي مضاد للسلوك الإيراني، تكون الصورة قد اتضحت؛ فالخطاب أكد شيئاً جديداً، بأن أمريكا ستفرض على إيران «أشد العقوبات صرامة في التاريخ»، وأن إيران سوف «تكابد للحفاظ على اقتصادها على قيد الحياة»، ما لم تُعدل سلوكها العدواني، وليس فقط توقف نشاطها النووي غير السلمي.
لقد طرح بومبيو، 12 شرطاً للتوصل إلى اتفاق جديد مع إيران، داعياً جميع حلفاء أمريكا للانضمام له. وكما سبق أن طرحت الإدارة الأمريكية بأن السلاح النووي ليس إلا أحد الإشكالات مع إيران، وأن الأهم هو الإرهاب الذي تمارسه وتدعمه، فمن بين الاثنى عشر شرطاً كانت ثلاثة فقط متصلة بالنشاط النووي بينما كانت البقية للسياسات الإيرانية بالمنطقة كالصواريخ البالستية، ووقف دعم الجماعات الإرهابية، واحترام سيادة العراق، والتوقف عن دعم الحوثيين، والانسحاب من سوريا، والتوقف عن تهديد جيرانها..
وفي الوقت الذي كان الأوروبيون ينتظرون مقترحات أمريكية للعودة لاتفاق نووي معدل، لم يقدم خطاب بومبيو أي تنازلات للأوروبيين بل على العكس، طالبهم بمشروع اتفاق يشمل كل السلوك الإيراني. ومن ثم فالاتفاق النووي نفسه أصبح منتهياً من الناحية العملية، فقيمة الاتفاق تتمثل أساساً بالوجود الأمريكي فيه ولن يصمد مهما حاول الأوروبيون ترميمه. ورغم أن الأوروبيين يصرون على بقاء الاتفاق للحفاظ على أرباحهم الاقتصادية بإيران، ورغم أن المفوضية الأوروبية أعلنت عن اتخاذ تدابير لحماية المصالح الأوروبية بإيران على ضوء العقوبات الأمريكية، فلن تستطيع أوروبا إنقاذ الاتفاق النووي.. بل حتى الروس والإيرانيون يشكون كثيراً بذلك. لماذا؟
لأن الوضع الاقتصادي يوضح أن ما تقوله الحكومات الأوروبية عن تعويضات أو تدابير للالتزام بالاتفاق سيكون ضعيف التأثير على أرض الواقع، فالشركات التي تتخذ قرارات الاستثمار في إيران تواجه المخاطرة بالعقوبات الأمريكية. فما هو المتوقع من شركة عالمية أن تختار بين أمريكا أو إيران؟ حتى السؤال يبدو سخيفاً! لذا، تستعد كبرى الشركات العالمية للخروج من إيران، مثل شركة توتال الفرنسية العملاقة للطاقة، التي وقعت عقداً لمساعدة إيران على تطوير أكبر حقل للغاز بالعالم، فهي تخطط لإنهاء عملياتها بحلول نوفمبر. والمتوقع أن غالبية الشركات الأوروبية ستحجم عن المخاطرة في السوق الإيرانية خشية العقوبات الأمريكية وفقاً لوجهة نظر الخبراء الاقتصاديين.
ليست أوروبا فحسب بل حتى خارجها من روسيا والصين، فالقرار العالمي الاقتصادي/ السياسي لا تزال اليد الطولى فيه لأمريكا.. فمثلاً بعد الخلافات التجارية الأمريكية الصينية التي أطلقها ترامب وكادت توصل لحرب تجارية، انتهت بالتوصل لاتفاقات بين واشنطن وبكين بما يرضي الإدارة الأمريكية بشروطها «القاسية»، مما اعتُبِر «خضوعاً» من الصين لأمريكا؛ وحتى وجهة النظر الروسية ترى ذلك، فرئيس مركز الاتصالات الاستراتيجية الروسي ديمتري ابزالوف، يقول: «إن أسلوب ترامب القاسي هذا يعمل.. وإنه يمكن أن يعمل مع كوريا الشمالية، ومع الصين، والاتحاد الأوروبي، والآن الدور على إيران» (وكالة روسيا اليوم).
لم تعد تجدي سياسة الاحتواء (الجزرة) التي قدمتها إدارة أوباما لإيران، بل لم تعد تجدي سياسة العصا والجزرة التي قدمتها الإدارات الأمريكية السابقة.. الآن سياسة العصا الترامبية.. وكما جاء بمجلة فورين بولسي (راي تاكيه ومارك دوبوتز): «أنه لدى أمريكا اليوم إستراتيجية واضحة التكتيكات. فقد حددت المشكلة: نظام مصمم على توسيع حدوده وتهديد جيرانه، وتطوير الأسلحة النووية، وإساءة معاملة مواطنيه. ترتبط كل هذه القضايا، بإيمان حماة الثيوقراطية (النظام الديني القمعي) أن ثورتهم لا تنجح إلا إذا تم تصديرها بلا هوادة. وحدد بومبيو الخطوات اللازمة لمواجهة ذلك: استنزاف الخزينة الإيرانية، دعم التحالفات الإقليمية، مساعدة الشعب الإيراني في سعيه الدؤوب لتحرير نفسه من قبضة الاستبداد الديني».
أخيراً، استعرضت مجلة «فوربس» بتقرير لها أرقاماً سلبية في الاقتصاد الإيراني، كتراجع الاستثمارات الأجنبية وزيادة البطالة والتضخم وتدهور سعر العملة الإيرانية، لكن القادم سيكون أشد صعوبة مع بدء سريان العقوبات الأمريكية التي ستضع الاقتصاد الإيراني أمام ضغوط إضافية هائلة ربما تؤدي إلى انهياره وتصاعد الاحتجاجات الداخلية، حسب التقرير.
التوجه الأمريكي أصبح واضحاً سيعمل لضمان ألا يتاح أمام طهران سبيل لأي أسلحة نووية وألا تدعم المنظمات الإرهابية وألا تتدخل في شؤون جيرانها.. لكن ننتظر إلى أين سيتوجه النظام الإيراني..