د.عبدالله بن موسى الطاير
التجربة المريرة مع الصهاينة العرب تجعل الثقة بما يكتبون محل نقاش؛ وبذلك فإن استغراقهم في الثناء على برنارد لويس الذي توفي في الـ19 من مايو الحالي عن عمر ناهز قرنًا من الزمن جعل الرأي العام العربي لا يرى في ذلك المستشرق -بل آخر المستشرقين الكلاسيكيين كما يسميه أستاذنا رضوان السيد- سوى سبب كل خراب حل بالمسلمين، وبخاصة العرب منهم.
برنارد لويس المفكر والمستشرق البريطاني الأمريكي لم يكن عدوًّا للإسلام كدين، وإنما كان دائم التشكيك في قدرة العرب على التعايش السلمي مع الحضارة الغربية؛ فالعرب في زعمه يعتبرون الغرب المسيحي سببًا في كل شر مستطير حاق بهم، ويرون الغرب المنافس المتغلب، وكفته الراجحة حضاريًّا وراء كل تخلف يعيشونه. ويبدو لي أحيانًا أن برنارد لويس لم يكن سوى ابن خلدون آخر في قسوته على العرب، ولكن نظرًا لخلفيته اليهودية الغربية تمت شيطنة كل ما كُتب عن الإسلام والمسلمين. وأكرر: وبخاصة العرب منهم.
ما تحفظه المكتبة لبرنارد لويس أنه أسَّس لمقولة منصفة للإسلام، هي أنه ليس ذا طبيعة عنيفة في ذاته، وإنما الظروف التاريخية والبيئات والمتغيرات الاجتماعية هي التي تنتج العنف الذي يتسربل بالدين. وفي مقالته ذائعة الصيت «جذور الغضب الإسلامي» كتب نصًّا: «والإسلام واحد من أعظم الديانات في العالم. وهنا أجد من الضروري، بوصفي أحد مؤرخي الإسلام من غير المسلمين، أن أوضح ما أعنيه بهذا الكلام؛ فالإسلام جلب السلام والأمان لعقول ملايين لا تحصى من الرجال والنساء، والإسلام أعطى الكرامة والمعنى لأناس كانت حياتهم رتيبة وفقيرة، وعلم العيش بإخاء لأناس من أعراق مختلفة، وعلم أناسًا من عقائد مختلفة التعايش جنبًا إلى جنب بتسامح نسبي. كما أنه ألهم حضارة عظيمة، عاش فيها آخرون إلى جانب المسلمين حياة خلاقة ومثمرة. وقد كان لهذه الحضارة منجزاتها التي أغنت العالم».
وما أظنه أن الذي فاقم سوء فهمنا لهذا المستشرق هو هجومه العنيف على «القومية العربية»، وهي في زعمه الفئة الغاضبة من المسلمين، والناقمة على الغرب بسبب القضية الفلسطينية من جانب، ولسبب تاريخي يراه في كون الإسلام بخلافته العربية دائمًا ما كان ينظر للمسيحية على أنها تهديد وجودي؛ لأنها تمثل هوية مقابلة للهوية الإسلامية. ليس من المنطق أن نحاكم النتاج الفكري لهذا المستشرق وفقًا للمعايير التي نقبل ونرفض بها النصوص التي تنتقد الإسلام والمسلمين؛ فهو وإن كان باحثًا أكاديميًّا، يفترض فيه الحيادية والموضوعية، فإنه يصعب انتزاعه من يهوديته، وانتمائه للمعسكر المقابل، وبخاصة أنه أصبح من كبار موجهي السياسات الغربية نحو العرب والمسلمين. بعض ما ذكره من آراء سلبية، وتعميمه للقوالب السلبية الموجهة ضد المسلمين، وتخويفه قادة الرأي والسياسة في الغرب من سياسات ونوايا إسلامية، كانت تستند إلى فهم مجتزأ لمفردات خطاب إسلامي، لا تجمع عليه الأمة كدار الكفر ودار الإيمان، أو ما سماه مؤسس تنظيم القاعدة «الفسطاطَيْن». الانحياز في الاستنباط إلى المخاوف التاريخية والعقائدية جعله يضخِّم من الخطر الذي يمثله المسلمون، وبخاصة العرب منهم، باعتبارهم الخطر الحقيقي على الحضارة الغربية. وفي منعطفات معينة تجاوز تسامحه في انتقاء عرقيات مسلمة على أنها أكثر بعدًا أو قربًا من الغرب المسيحي ليجعل الجميع عربًا وتركًا وفرسًا وكردًا تحت عنوان واحد، هو الإسلام «العدو» الذي يتربص بالمسيحية. مات برنارد لويس، وترك قسمًا من الصهاينة العرب يتامى. وأجزم أن بعضهم لم يعرف عن لويس سوى شتائمه للعرب، وتعظيمه لخطر الإسلام على الحضارة الغربية، وهي مزاعم تلبي ما في نفوسهم من سفالة وحقد على الإسلام والمجتمعات العربية التي نبذتهم في صغرهم، ولفظتهم في كبرهم؛ فأصبحوا كائنات متسلقة، أدمنت الجلوس على فضلات موائد الصهاينة في كل ملة وقومية.