د.فوزية أبو خالد
أكاديمي أنتج ما يزيد على ثلاثين كتاباً وأتقن ما يربو على سبع لغات، فغير إتقانه للغة الإنجليزية كان طليقاً بالعبرية كواحد من أبنائها إضافة لمعرفته قراءة وكتابة وكلاماً باللغة العربية والتركية والفارسية، عدا عن إجادته للغة الآرمية واللاتينية.
وهو أكاديمي عمل بثلاثة من أعرق جامعات العالم الغربي وأمريكا وهي جامعة لندن من خلال دراسته وعمله بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية فيها، جامعة برنستون وجامعة كورنيل.
ولكنه كان أيضاً أكاديمياً من مدرسة الاستشراق التي سيبقى عمله من خلالها عموداً من أعمدة تلك المدرسة، بل من أعمدة إعادة إنتاج مدرسة الاستشراق بصيغتها المجددة لمرحلة ما بعد كولونية مع نهاية القرن العشرين إلى ما يقارب منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة, حيث كان آخر إصداراته عام 2012م بعنوان الإيمان والقوة أو الدين والقوة FaithالجزيرةPower
نعم تقتضي الموضوعية أن نقر بأن برنارد لويس كان كأكاديمي وكباحث من الدارسين المجدين بكل ما يتطلبه البحث من جهد ووقت وصبر وانقطاع للقراءة والكتابة وما يقتضيه الإخلاص لهما من فناء لزهرة العمر بين عتمتين وضوءين عتمة الحبر والعزلة وضوء العزلة والحبر. ولربما لولا هذا الالتزام الشديد ما كان ليستطيع القيام بكتابة ذلك العدد من كتب الاستشراق مع مئات من المقالات والمحاضرات والمقابلات المكتوبة والمرئية بجانب اهتمامات جانبية أخرى متعددة ومنها اهتمامه بالصوفية والسلفية وقيامه بجمع قصائد شعرية لطيف عريض من شعراء العالم الغربي وطبعه في كتاب.
وكذلك تقتضي الموضوعية أن نعترف له باهتمامه المعرفي التاريخي والجغرافي والجينولوجي العميق بمنطقة الشرق الأوسط وبالمشرق العربي منه على وجه التحديد وبالعالم الإسلامي والعلاقة بالإسلام على وجه التخصيص، بل إن معرفته لبعض التفاصيل قد لا يعرفها المواطن نفسه في هذه المنطقة عنها بل قد لا يعرفها بعض العلماء المتخصصين من المنتمين إليها. وذلك ليس لجهل منهم, ولكن لتبحر هذا المستشرق الغائي بالبعدين المركبين لعمله كأكاديمي من ناحية ولعمله كمستشار سياسي وموقفه كمنظر أيدولوجي من الناحية الأخرى.
لذا فإن نفس الموضوعية تقتضي أن نقول إن الاعتراف بعمل وجهد برنارد لويس كأكاديمي وباحث يجب ألا يغيب عنه سؤال الموضوعية نفسه في جميع ما أنتجه هذا المستشرق الغزير. فهل كان برناردو لويس المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط الحديث وفي أطروحة الإسلام وتعالق الغرب التاريخي معه, باحثاً موضوعياً بالمعنى العلمي للكلمة؟ لا يبدو لي أن محاولة الإجابة على هذا السؤال يمكن أن تكون إيجابية بالمقياس العلمي الدقيق لكلمة موضوعية إذا عرفنا أن معظم أعمال هذا الأكاديمي المتعلقة بالمنطقة تأتي على شكل مرافعات دفاعية عن الحقبة الكولونية من تحكم العالم الغربي سياسياً وعسكرياً بالشرق الأوسط، كما تأتي على شكل لا يخلو من التشابه مع التقارير الاستخباراتية على رغم من هيكلته وسياقاته المتهجية في تنظيره لإعادة إنتاج علاقة الهيمنة بين العالمي الغربي والأمريكي تحديدًا وبين دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية منها على وجه التحديد. فمنذ هجرة هذا المستشرق من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بل وقبل حصوله على الجنسية الأمريكية عام 1982 كان قد توصل لوضع حجر الأساس إن صح التعبير لمخطط الشرق الأوسط الكبير بخرائطه المرسومة بدماء سكان المنطقة بما يشكل «الجيل الجديد» من معاهدة سايكس بيكو للعام 1916م. هذه المعاهدة التي قضت في حينه وإلى أمد مرير امتد لما بعد منتصف القرن الماضي بتقاسم الأرض العربية من إرث الإمبراطورية العثمانية بين القوى الاستعمارية وتمزيقها عبر إقامة تخوم وحواجز مصطنعة جغرافيا وسياسياً بل عسكرياً.
فمنذ عام 1980م كان برنارد لويس قد قدم للبيت الأبيض والبنتاجون والسي آي آيه تصوره للشرق الأوسط الجديد الذي لا يقوم فقط على تفتيت المفتت كما يقال، بل أيضاً يقوم على تسييد دولة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني الإسرائيلي لفلسطين على الخارطة العربية، وعلى العمل الدؤوب لتحقيق حلمها الاحتلالي التمددي لحدودها لتكون (من البحر إلى البحر) على أنقاض سيادة العالم العربي. ويكون ذلك حسب رؤيته الاستشراقية بتقويض دول العالم العربي القائمة وتحويلها إلى دويلات مجزوءة على ثلاث أسس تفكيكية وهي، العرق بالمعنى القبلي والإثني الاستعلائي، والمذهبي بالمعنى الديني التفاضلي، والطائفي بالمعنين العرقي والمذهبي بالمفهوم الانعزالي.
ومن أمثلة هذا المخطط الاستنساخي التجديدي لتجزئية سايكس بيكو اقتراحه بتقسم العراق إلى ثلاث دويلات، سنية وشيعية وكردية وتقسيم مصر إلى أربع دويلات قبطية ونوبية وسنية ودولة تضم سيناء وشرق الدلتا تكون تحت سيطرة «دولة إسرائيل الكبرى» في جوارها المفكك الجديد حسب مخطط برنارد لويس.
(ويمكن لمن يريد رؤية كامل خريطة الخراب الرجوع للعمة جوجل)
والواقع أن المتابع يعرف أن أطروحة برنارد لويس التفكيكية لخارطة الشرق الأوسط لا يكفي فهمها وتقدير خطورتها من خلال مقاربة جذرها المعرفي في العلاقة بإطار التنظير الاستشراقي والمركزية الغربية وحدهما. فبقدر ما تستبطن وتمثل تنظيرات وكتابات برنارد لويس عن الشرق الأوسط وعن العالم العربي وعن الإسلام تلك النظرة الغربية السلطوية الاستعلائية للشرق وللعالم العربي على وجه الخصوص كما كشفها نقد الاستشراق وخاصة ما كتبه منظر الاستشراق الرائد والعتيد إدوارد سعيد في قراءته لعدد من أعمال برنارد لويس، فإن أعماله تمثل موقفاً ايدولوجياً منحازاً لا يخفيه في تعزيز وجود الاستعمار الاستيطاني الصهيوني متمثلاً في قيام دولة العدوان «إسرائيل» على كامل التراب الفسطيني بامتداداتها التلمودية المتخيلة والمخطط معاً.ولهذا فلم تنس حكومة العدو الإسرائيلي وهي تحتفي بمرور سبعين عاماً على احتلالها لفلسطين أن تسمي برنارد لويس بالاسم وتتوجه له بالعرفان كواحد من أهم سبعين مفكراً وأكاديمياً أمريكياً أسهموا بفعالية في تعزيز موقع «إسرائيل» على خارطة الشرق الاوسط بتعزيز العلاقة بينها وبين أمريكا.()https://www.washingtonpost.com/amphtml/local/obituaries/bernard-lewis-eminent-historian-of-the-middle-east-dies-at-101/2018/05/19/4f0db6b8-5bad-11e8-8836-a4a123c359ab_story.html?noredirect=onالجزيرةtid=ss_tw-ampالجزيرة__twitter_impression=true
وبالمثل فإنهم لم ينسوا أن يقفوا دقيقة حداد على موته يوم 19 مايو 2018م فقد تفانى هذا المستشرق في توظيف عمله الأكاديمي الصبور في خدمة العمل السياسي والعسكري الأرعن والمخطط معاً, ليس فقط في تقديم الغطاء الأيدلوجي والنظري للمحافظين الجدد لتدعيم ذريعة الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 بل هذا الأخطر لإعادة تفكيك المنطقة في محاولة تحقيق كامل الحلم الصهيوني لا سمح الله.
هذا التفاني الواعي بالهدف هو على ما يبدو ما خول برنارد لويس أن يدخل إلى قطار السياسة الأمريكية ويصبح عبر عربة الاستشراق عراباً أو عرافاً مهماً من عرابي وعرافي متاهاتها في الشرق الأوسط.