د. محمد بن يحيى الفال
يبدو الملف النووي الإيراني للمتشائم - وحق له ذلك؛ لكون إيران مثالاً صارخًا للدولة المارقة الخارجة عن القانون - كحالة سرمدية بلا نهاية ولا بصيص أمل أو ضوء في نهاية نفقه المظلم والخطير على الأمن والسلم الدوليين، والممتد لعشرات السنوات من عمره الزمني. وبالنسبة للمتفائل الذي ما زال يعتقد أن المجتمع الدولي قادر على كبح جنون نظام الملالي فملفها النووي يبدو كمسلسل درامي مكسيكي بحلقات تعد بالمئات، كلما اقترب المسلسل من النهاية إذا بتطورات درامية جديدة ترده للمربع الأول. وما بين المتشائم والمتفائل هناك الواقعي الذي يرى أن ملف إيران النووي من القضايا الصعبة والعصية على الفهم والتحليل بسبب تعقيداته واختلاط أوراقه وأضلاعه، وعدم جدية التعامل معه من قِبل العديد من الأطراف ذات العلاقة به، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. تاريخيًّا، البرنامج النووي الإيراني بدأ منذ منتصف الخمسينيات الميلادية من القرن المنصرم بخبرة أمريكية حين مُنحت جامعة طهران إبان حكم الشاة التكنولوجيا اللازمة لتشغيل مفاعل للأبحاث النووية، يتبع الجامعة، الذي تولت فرنسا في حقبة لاحقة دعمه بالخبرات المطلوبة لتطويره وتشغليه. سقط الشاة بثورة الخميني الإسلامية المزعومة، وبالكاد مضت سنة واحدة على الثورة المشؤومة حتى اندلعت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، واستمرت لمدة ثماني سنوات عجاف، انشغلت فيها كل دول المنطقة بالحرب الضروس. ومع ذلك فإن الثورة المزعومة والحرب لم توقفا الدعم الغربي لإيران في المجهود الحربي الذي لم يستثنِ حصولها على العتاد العسكري حتى من طرف إسرائيل، الذي افتضح أمره من خلال ما يسمى بفضيحة «إيران كونترا». انتهت الحرب العراقية - الإيرانية، واستمرت إيران بتسارع في حقبة التسعينيات من القرن المنصرم التي تلت الحرب، وبدعم روسي هذه المرة، في جهودها لتخصيب اليورانيوم بالكثافة المطلوبة التي تؤهلوها لصنع القنبلة النووية. لعل اللافت للنظر عند قراءة الملف النووي لإيران أن الدول الغربية التي رأت الدعم الروسي لجهود إيران في الحصول على أسرار وخفايا التكنولوجيا النووية لم تُلقِ بالاً، أو تحرك ساكنًا للتصدي لهذا التطور الخطير في النوايا الإيرانية لتقويض أمن المنطقة التي تعد من أهم مصادر الطاقة للعالم بأسره. ولنُفاجَأ بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة هي الجهة التي علقت الجرس لتنذر العالمن خطورة البرنامج النووي الإيراني، ولتعلن في الثاني عشر من شهر سبتمبر 2003 أن على إيران وقف أنشطتها النووية كافة الهادفة لتخصيب اليورانيوم بالنسب التي ستجعلها قادرة على إنتاج قنبلة نووية.
بإعلان الأمم المتحدة عن طريق وكالتها الدولية للطاقة الذرية دخل الملف النووي الإيراني مرحلة جديدة من اهتمام العالم به، وخصوصًا العالم الغربي، وتحديدًا الولايات المتحدة؛ ولتبدأ حقبة مكثفة من تسليط الضوء على الملف، لم تشمل فقط الجانب السياسي للملف بل الجانب الإعلامي منه أيضًا؛ ليضحي الملف مادة إعلامية، شغلت وسائل الإعلام والرأي العام العالمي خلال ما يقارب ستة عشر عامًا، هي مجموع حقبتَين رئاسيتَين لرئيسَين أمريكيَّين، هما الرئيس جورج بوش الابن، والرئيس باراك أوباما؛ ليوقع الأخير، وتحديدًا في الرابع عشر من يوليو 2015، في العاصمة النمساوية فيينا، بمشاركة خمس دول كبرى، هي (روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين وألمانيا)، اتفاقًا مع إيران لإقفال ملف إيران النووي. وهو الاتفاق الذي وصفه خليفته الرئيس دونالد ترامب بأنه أسوأ اتفاق في التاريخ. المؤكد أن الرئيس ترامب أصاب كبد الحقيقة بوصفه الاتفاق النووي مع إيران بأنه الاتفاق الأسوأ في التاريخ؛ فالاتفاق مليء بالعيوب الفنية والثغرات الأمنية، منها أنه يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة لا تتخطي 5 %، ولا يسمح لها بتخزين ما تم تخصيبه، وهو الأمر الذي لا تحتاج إليه إيران أصلاً؛ إذ لديها مخزون من اليورانيوم، مجموعه 300 كيلو، ثلثها بنسبة تخصيب تبلغ 3.67 %، وهو الحد الأعلى المسموح به للدول لامتلاكه حسب تصنيفات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أجهزة الطرد المركزي القادرة على تخصيب اليورانيوم هي الأخرى لم يتعامل معها الاتفاق بالطريقة المناسبة التي تحد من طموحات إيران النووية، وترك لها الاتفاق أكثر من ستة آلاف جهاز مركزي، تتوزع بين منشأتَيْ ناتانز وفوردو النوويتَيْن، مع ضبابية فيما يخص إنتاج منشأة أراك النووية من الماء الثقيل المحفز لعملية الانشطار النووي.
الخلاصة: بنود الاتفاق النووي تشبه حبة مسكِّن، تؤجل إنتاج إيران لقنبلتها النووية، ولا تعالج بشكل نهائي الحد من طموحاتها النووية التي يبدو أنها لن تتخلى عنها بالاتفاق أو بدونه. وعليه فقد جاء قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من الاتفاق كردة فعل طبيعية، تحاول علاج ما تمخض عنه من ثغرات وقصور جلي. بيد أن الشروط الاثني عشر لرفع العقوبات عن إيران من خلال استراتيجية الولايات المتحدة للتعامل مع طهران، التي أعلنها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، ووصفها بأنها أقسى العقوبات في التاريخ.. وبغض النظر عن عدد الشروط التي قد تكون مصادفة بحتة أو مقصودة للدلالة على المذهب الديني المتعصب لملالي طهران، فإن الكثير من المراقبين يشككون في جدية الولايات المتحدة في جعل ملالي طهران ينصاعون للمطالب الأمريكية. التشكيك في جدية الولايات المتحدة لتنفيذ استراتيجيتها تجاه إيران مرده لعدد من الحقائق، أولها هو أن إعلان الاستراتيجية جاء من خلال محاضرة ألقاها وزير الخارجية الأمريكية في مؤسسة التراث «Heritage Foundation»، وهي مؤسسة أبحاث أمريكية يمينية التوجه، وهو الأمر الذي ينظر إليه بأن إعلان الاستراتيجية من خلال هذه المؤسسة يصب في رفع شعبية الرئيس الأمريكي في الداخل الأمريكي، وخصوصًا بين قاعدته الانتخابية العريضة، والمتمثلة في اليمين الأمريكي بكل تصنيفاتها. وثاني هذه الحقائق هو ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي بأن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للتعامل مع إيران ليس من أهدافها إسقاط النظام. وثالث هذه الحقائق - وهو ذو بُعد دولي - يتعلق بأن الاتفاق النووي مع إيران أضحى ككرة تنس طاولة، تتقاذفها جهات وأطراف عدة؛ فالولايات المتحدة انسحبت منه، والأوربيون ما زالوا يؤكدون فاعليته، بينما نرى الروس والصينيين إلى حد ما متفقين على صوابه. تعامل الولايات المتحدة بجدية مع استراتيجيتها التي أعلنها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو سيكون العامل الحاسم في مواجهة التحديات التي يشكلها نظام الملالي على السلم والأمن الدوليَّين. وبدون ذلك سيكون نظام الملالي هو الرابح الأكبر من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. وبغياب بديل حازم له سيجد نظام الملالي نفسه في مواجهة مجتمع دولي غير موحَّد ومنقسم، وغير قادر على وضع النقاط على الحروف لكبح شروره النووية المرتقبة التي نرى شواهدها ماثلة لنا أمام أعيننا بمغامراته التي لم تخلف سوالدمار والخراب، بدءًا بشعوب إيران نفسها، مرورًا بلبنان والعراق وسوريا واليمن.