يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} سورة هود آية (118).
فالاختلاف في هذه الحياة أمر طبيعي متجذر في كافَّة شعوب المعمورة منذ بدء الخليقة على هذه الأرض المباركة ووجود المرء من أجل أن يعمرها ووجد معه الاختلاف في كل شيء في اللون والجسم والتفكير - حيث إن الاختلاف لا يقف على الصعيد الاجتماعي فقط بل هناك تيارات متعددة ومختلفة في الفكر والثقافة بل يصل الأمر إلى أعمق من ذلك إذ يطال الأسرة الواحدة المنسجمة في الأفكار المتفقة في الطبائع المستظلة بسقف واحد والمنتمية إلى جذر أسري موحد ومهما بلغت درجة التقارب بين أطياف المجتمع سواء كان التقارب في الفكر والثقافة أو التقاليد أو العادات أو المبادئ أو العقيدة - ومن خلال هذه الأمور ستجد اتجاهات متعاكسة في ذلك الوسط فما بالك بالمجتمعات التي يتلاطم فيها موج التباين والاختلاف أليس حري بها أن تتوخى احترام وجهه نظر بعضها بعضاً وتتحلى بالأخلاق والمعاملة الحسنة وآداب الحوار والجدال في تسوية ما اتضح من اختلاف فيما بينهم حتى لا تتمزق عرى الوحدة الوطنية وتتفشى أبجديات الحقد والحسد والكراهية فيما بينهم ويصبحون بعد هذا الاختلاف السيء أعداء فيما بينهم فهناك أسس ومعطيات تحقق لكل شعوب المعمورة التعايش والانسجام والالتقاء تحت سقف واحد في ضوء التعدد والتباين والاختلاف سواء كان الاختلاف على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع ومن تلك الأهداف التي تحقق أسس التعايش بين شعوب المعمورة ما يلي:
أ- فن الحوار - وقد أقر الله سبحانه وتعالى شرعية الحوار وجعله فريضة ومنهجاً كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فقد عرض كتاب الله الكريم صورًا مفصلة للحوارات بشتى أنواعها واختلافها إذ لا توجد حوارات محرمة ولا ممنوعة وهذا الأمر يتضح للقارئ الكريم في سورة البقرة التي عرضت ثلاثة حوارات متتالية ليكشف لنا كتاب الله الكريم مدى اتساع الحوار وانفتاحه إلى مناطق عميقة في العقيدة والإيمان.
الحوار الأوَّل - كان بين إبراهيم عليه السلام والنمرود الآية (258)
الحوار الثاني مع عزير الآية (259)
الحوار الثالث -حوار إبراهيم عليه السلام- مع ربه إذ يكشف لنا هذا الحوار حقيقة من أعمق الحقائق في العقيدة والإيمان.
- إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى
- قال أولم تؤمن
- قال بلى ولكن ليطمئن قلبي,
قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم
وإذا أردنا أن يكون الحوار فاعلاً لا بد أن يتحلى بالنقاط التالية:
1 - يجب أن يكون الحوار يتسم بالجدية.
2 - يجب أن يكون الحوار ناضجاً لا مجرد عرض أفكار فقط لا فائدة منه.
3 - يجب أن يكون الحوار يمتاز بالانفتاح على الآخر فهو يعتبر من أفضل جوانب الانفتاح.
4 - يجب أن يكون الحوار يمتاز بآداب الحديث والأخلاق إلى جانب مقارعة الحديث بالحجة والدليل بالدليل.
ب- فن الحرُّيَّة.
فالأمم المتحضرة والمجتمع المدني المتقدم هما اللذان يتمتعان بمزيد من الحرُّيَّة الفكرية والثقافية فإن ميزان تقدم أي أمة يكمن فيما يختزنه المرء من حرية في التفكير والتعبير فالعقل ينتج بقدر ما يمتلك من حريَّة.
فقد عرض الإسلام في بداية الدعوة مبادئه وقيمه وأحكامه وسننه دون أن يفرضها على الآخرين رغم أنها الحق المبين فقد أمر الله نبي الرحمة مُحمَّد صلوات الله وسلامه عليه أن يعظ القوم ويذكرهم دون أن يفرض عليهم الإسلام عنوة أو كرهًا فقد قال الحق سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم - {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} سورة الغاشية آية (21-22).
فقد امتاز المجتمع الإسلامي الأوَّل مجتمع نبي الرحمة والمجتمعات الإسلامية المتعاقبة بتنوع ديني لم يشهد له مثيل حيث وجدت فيه عناصر مختلفة تنتمي إلى أديان عدة كاليهود والنصارى وأديان أخرى لم تعش على أرض جزيرة العرب كالمجوس, أما في عصرنا الحالي - عصر العلم والانفتاح التي جعلت العالم بأكمله يعيش في قرية واحدة بفضل الله تعالى وبفضل التطور السريع للتقنية في وسائل الاتِّصال المسموعة والمرئية وفي ظل الدعوات المستمرة في تقارب كافة الحضارات في هذا العصر فقد ضاقت أبجديات الحُّريَّة بكافَّة أشكالها في المجتمعات المسلمة أنفسهم فلا يستطيع الفرد المسلم أن يصرح علناً بهويته وانتمائه في داخل وطنه خشية أن يسلق بألسنة حداد علماً أن غير المسلمين يتمتع في بلدان المسلمين بحريَّة وأمان واطمئنان.
وقد نجم عن هذا التضييق والخناق حروب أهلية ضارية - سلاحها التعلم واللسان ورصاصاتها السب والشتم والتكفير عبر منابر المساجد وكأن هذه الخطب فريضة غائية أو ضرورة ملحة.
وفي رأيي المتواضع ليس الاختلاف مدعاة للفرقة والفتنة والقطيعة - لأن الاختلاف بمثابة حق شرعي أوجده رب العباد بين البشر ليكون هذا الاختلاف بمثابة رحمة لهم فقط - كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} سُورة الروم آية (22).
ج- احترام القيمِّ - فلا بد من احترام قيم الغير فهو مطلب ضروري للعيش ضمن المنظومة الاجتماعية بسلام إلى جانب إقامة علاقات منشؤها العدل والحوار والمساواة لذا نجد آيات من كتاب الله الكريم وفق هذه القاعدة: فيقول الحق تبارك وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} سُورة الممتحنة آية (8).
فهناك نصوص ودوت في ضرورة التعامل بالحسنى -وعدم الإساءة إلى أهل الذمة- ويكفي الحديث عن نبي الأمَّة مُحمَّد صلوات الله وسلامه عليه يقول {من آذى ذمياً فقد أذاني}.
فإذا كان الإسلام يحرص على المحافظة في تلك العلاقة فحري بالمسلمين أن يحافظوا على تماسكهم الداخلي ووحدتهم الوطنية ومن هنا تكمن المسؤوليَّة على عاتق من يقومون بدور التَّربيَّة والتَّوجيه والتَّعليم.
والله الموفق والمعين