تتجلى ظاهرة الأطلال قديمة قدم الشعر العربي ومكانته، غير أن هذا القدم لم يصبها بالاحتراق، ولم يقصها عن أضواء التساؤلات والبحث، بل جعلها مسرحا أرحب للتأمل، يستدعي إعادة قراءتها من نواحٍ كثيرة، تثير التفسيرات الممتدة: التفسير الواقعي، البنيوي، النفسي، والتفسير الأسطوري، إلى جانب مكامنها الفنية وتجلياتها الجمالية. فقد شكلت لوحة الأطلال نقطة جوهرية في الأدب حاول النقاد سبر أغوارها ومحاولة تأصيلها وتأويلها، وإعادة استقرائها بدءا من ابن قتيبة وحتى اليوم.
ويكتسب الطلل أهميته الشكلية كونه يشكل العتبة أو الاستهلال فهو التصدير الذي يصافحنا ثم يولجنا إلى بقية الأجزاء. فهل يعد الطلل فضلة؟ أم جزءا من البنية؟ وهل هو تقليد أدبي فرض على الشاعر؛ لضمان حسن التلقي؟ أم هو تجربة نفسية حقيقية صادقة نبعت من ذات أحرقتها الظروف وأتلفتها الصروف، فتشطرت بفعل عوامل عديدة شكلته حتى انساب عما ورائيات ذاتية إلى تأثيرات ثرية غيرية وأكسبته قيمة زاخرة فيما بعد.
إن عماد الطلل هو التصعيد العاطفي من خلال أنسنة المكان (مخاطبة البقايا) والبعد الزماني (الذاكرة) والمكاني (الجغرافي) الذي يجعل منه كتلة وجدانية ينبض عاطفة ويرشح مشاعر مرهفة، محركه غالبا (الحب والتعلق) وبواعثه تتلخص في الثنائيات المتضادة : الوصل والحرمان، الوجود والفناء. ويلهبه الحنين والفقد والقلق والتيه.
وباستعراض المشاهد الطللية أجد أن القصائد قامت على إحدى ثلاث: الإبداع والاتباع والامتناع. فالإبداع الذي ولد من رحم التجربة النفسية الصادقة التي مر بها الشاعر، محبا يتغنى بحبه الحاضر، أو محزونا يرثي غرامه الداثر. والاتباع الذي لم يكن إلا مسايرة لمنهجٍ مد جذوره، ففرض كتقليد عريق حظي برضا البيئة وإعجابها، وكره الشذوذ عنه، وبذلك لم يتأت عن معاناة فردية مر بها صاحبها من حب ولهفة، فلم يستحضرها استحضارا حارا؛ بل اصطنعها من العدم امتثالا لذلك القالب الكلاسيكي للقصيدة، فهو يؤديه أداء فاترا ويتخلص منه إلى ما يهمه حقا من الموضوعات.
وقضية الامتناع التي أسرع ما يرد في أذهاننا منها محاولة أبي نواس في العصر العباسي إذ هاجم المقدمة الطللية ودعا إلى الخروج عليها، خروجا كان أقرب إلى اللهو والمخالفة منه إلى التجديد، ففي تصريحٍ ساخر يقول:
قل لمن يبكي على رسمٍ درس
واقفا ما ضر لو كان جلس»
وثمة محاولات للتجديد من الناحية الموضوعية والفنية؛ إذ لم تعد أوعية تسكب فيها الدموع حسرة على المنازل البائدة وعهود الحب الضائعة، بل تحولت عندهم إلى منابر يعلنون من فوقها آراءهم الحياتية.
وبصفة عامة يتجلى الطلل ممتدا من تجربة ذاتية صرفة إلى ثراء يكتسب أهمية لا محدودة خاصة مع تقادم الزمن فهو إلى جانب كونه وثيقة تاريخية، سجّل صورا نابضة من الواقع، زاخرة بالمسميات، وغنية بالتجارب والأحداث إلى جانب خدمته للغة والتعابير والتصاوير.
فالشاعر الجاهلي قدم لنا وثيقة لغوية أدبية تاريخية جغرافية من حيث لم يقصد ويتوقع، فالأبيات الطللية لا تخلو من ذكر الأماكن ووصفها ومخاطبة قبائلها، والمشاهد الطقوسية وهذا بحد ذاته يجعل منها مادة أصيلة دالة في دراسات التاريخ والجغرافيا والمعجم والبلاغة والأدب، ومنبعا لا ينضب.
والجدير بالذكر أن كل محاولات الخروج على المقدمة الطللية لم تطمس تأثيرها فظل يسري لدى الأدباء حتى العصر الحديث أبرزها ما جاء في ديوان أمير الشعراء شوقي، بل جر المهتمين غير العرب إلى التنقيب فيها معجبين تارة ومتعجبين أخرى، كما في دراسات المستشرق الألماني (فالتر براونه) الذي وقف على الشعر العربي الجاهلي فقال : «إن قطع النسيب التي تطالعنا في صدور القصائد الجاهلية ليست وسيلة إلى غاية أبعد منها وإنما هي غاية في نفسها».
كما استثارت النقاد منذ القدم، ولعل أشهر وأقدم وقفة نقدية على تلك المطالع هو ما وصلنا عن ابن قتيبة الذي سوغ لطلل الشعراء قائلا: «ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب»
وفي وثبة نقدية أخرى يجيء د. يوسف خليف بدراسة محفزةٍ لإعادة تناولها، وهي من أهم الدراسات التي تصدت لهذه القضية؛ وذلك لأنها تمثل محاولة جادة يرفدها حس شعري مرهف، وتدعمها نظرة نقدية ثاقبة، واستحضار ناضج للعصر، وتعاطف حميم معه ومع ذويه ومثيرات خوافقهم.
ويعلل لولع الجاهليين بهذه «المقدمة» كونها أتاحت للشاعر تصوير مشاعره «الذاتية» قبل الانغماس في الجانب «الغيري» الناتج عن «عقدٍ اجتماعي» بينه وبين القبيلة ويؤدي إلى «عقد فني» يجعل منه لسانا لقبيلته، يخدم قضاياها السياسية والاجتماعية.
فهي الجزء الأثير الذي يمثل خصوصية الشاعر في الشعور، والمنطقة العميقة التي تمثل الجانب النفسي الخاص به وحده، ومن بعدها يأتي الشعور المشترك أو الأغراض التي تنتقل من الذاتية إلى الغيرية أو تعالقهما معا، فلا يتوحد فيها كما في مكمن العلاقة الخاصة التي طوح بها حلول الجدب، واضطرار القبيلة إلى الرحيل لتلمس منزلا آخر خصيبا، مخلفة ذكريات ضاعت فوق الرمال، وأحلاما طمرها الزمن، وأُنساً قد صار إلى وحشة واغتراب وقفار.
ويرى أن قوام هذه النظرية هو ملء الفراغ الذي عانت منه البيئة الجاهلية، حيث عاشت حياة فطرية بسيطة أقلها عمل وأكثرها فراغ.
أما د. محمد الحيني فيرى «أنها ثمرة الحالة الوجدانية، التي سيطرت على الشاعر فربطت بينه وبين الأطلال التي شهدت عصارة الوجدان، وليس نتيجة للفراغ الذي ارتآه د. خليف. واستبعاد هذا التأويل مقنع جدا؛ فالصلة بين الرجل والمرأة - إذا استوثقت - أعمق من أن تلغيها الشواغل وأكبر من أن يستدعيها مجرد الفراغ!
وهناك المنهج «الإسطاطيقي» الذي يهاجم فكرة «الأغراض» في القصيدة الجاهلية ويدعو إلى «عزل النص» عن ظروف البيئة والشخصية عزلا تاما وتفسيره تفسيرا لغويا إسطاطيقيا.
وأمام نأي آراء النقاد إلى هذا التجريد، ثمة مذاهب نقدية معاصرة اعتنقت منهجا متوغلا بمسوغات كثيرة يتضافر بعضها ويتنافر بعضها الآخر.
ويبدو أن سبب تلك الردة المبالغة فيها إلى النص، كانت رد فعل لاستغراق الاتجاهات النقدية الأخرى في الشاعر وبيئته دون عناية كافية بالعمق المجهري الذي يتطلبه الوقوف الفاحص على النص.
وبين ذلك نذهب مذهبا هو من الأهمية بمكان إذ نقول: إن فرض الفروض على الشعر تحجير على نبعه وتضييق لواسعه وإفقاده حيويته ومرونته. والمسلك الأمثل يتلخص في ترك المسرح الشعري حرا، فهذه الأمور لا تقدح في شعريته ولا تعيبه، والإنتاج المبتكر يثري الساحة الشعرية بمختلف مظاهره، ورفض إحداها هو رفض للون يضفي على لوحة الأدب ألقاً وجمالاً. والعناية بالمواهب الأدبية تقتضي العناية بإحياء التراث من خلال تطبيق الدراسات الحديثة وعدم تجميد ما يتقادم، فالموروث يستوجب منا عناية خصبة مستمرة تنضج بالتلاقح بين الأصالة والمعاصرة بدلا من استنزاف الجهود في افتعال التناقض بينهما، والإغراء بنفي أحدهما للآخر.
ختاما, إن الطلل وإن كان فضلة في بعض القصائد من وجهة نظر بعض النقاد والأدباء؛ فليس فضلة غالبا في وعاء الأهمية الأدبية، بل يعد وثيقة هامة تستقي منها الحقائق المتنوعة ما يدعمها خاصة مع تقادم أزمنتها؛ فالشعر (ديوان العرب) وسجل تاريخهم وأحوالهم، ولذا لا تزال المقدمة الطللية أرضا خصبة تصلح للعديد من الدراسات سواء الواقعية أو النفسية أو الأنثربولوجية أو البنيوية أو الأسطورية أو الجمالية الفنية.
** **
- أروى بنت عبد الله الحكمي
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com