سهام القحطاني
ارتبطت الحكايات بالمرأة سواء كمصدر أو محرك، وهو ما قد يثير الاستفسار بشأن أصل هذا الارتباط، ما بين الحقيقة والادعاء.
وأظن أن أصل هذا الارتباط يعود إلى طبيعة المرأة، تلك الطبيعة التي فُرضت عليها، والتي تتصف بثلاث خصائص رئيسة هي؛ العزلة والمراقبة بأدواتها «الملاحظة والتدقيق والمراجعة» والخاصية الثالثة هي التفاصيل.
وتلك الخصائص تتوافق مع طبيعة الحكاية التي تعتمد بدورها على تقصي التفاصيل ومراقبة الحدث وتطويره، وهذا التلاقي بين خصائص الحكاية وخصائص الحياة الاجتماعية للمرأة التي فُرضت عليها كعقاب مبطن لنوعها.
وهو الذي حول المرأة إلى «حكّايّ» أو صانع حكاية، لتوثيق سيرتها أحيانا أو إعادة صياغة النموذج التوثيقي حينا والاختيار الثاني قلما تتجرأ المرأة في أوليات بوحها على ممارسته.
تبدأ حكاية المرأة مع الحكاية من نقطة «الاحتيال على مساحات الحجز والمنع» التي فُرضت على المرأة، وهو احتيال يوفر لها أفقاً مفتوحاً تنطلق من خلاله لاكتشاف الحياة عبر رحلة تقودها مخيلتها، وهي رحلة في نهاية المطاف تحقق لها العيش المشترك في عوالم مختلفة، محطمة من خلالها كل الحدود التي تفرض عليها الحجز والمنع في واقعها، فالحكايات توفر للنساء كما تقول فاطمة المرنيسي في كتابها «نساء على أجنحة الحلم» اختراق الحدود»، و الهوس «بالعالم الموجود خارج الأسوار» حتى «يتوهمن أنفسهن طيلة النهار متجولات في طرق خيالية».
إن المدة الزمنية التي تقضيها المرأة في البيت مع قصر مساحة حدود يومياتها التي تتحول مع التكرار إلى فضاء من الفراغ هي التي منحتها فرصة الفضول والتلصص على الكثير من المواقف والأحداث والمشكلات والصراعات وتناقل الأخبار، وذلك الفضول كان يلزمها ابتكار الحيل والمخارج، لإعادة صوغ الحكاية لتزيّف مصدرها وحتى تحمي نفسها من مساءلة النقل.
كما مكّنها الجلوس في البيت من رؤية الناس ومراقبة أفكارهم وسلوكهم وما تنطوي عليه تلك الأفكار والمواقف من تناقضات وانفعالات وعيوب ونواقص، كل تلك الأشياء كوّن لدى المرأة خبرات حياتية واسعة وعميقة ، كما كوّن لديها معرفة بطبيعة النفس الإنسانية وسلوكها وهو ما ساعدها مع تراكم الخبرة من تشكيل قاموسها الخاص من «اللغة وقواعد الاستنباط ودلائل الحكمة»، و»حيل الاختفاء» لتصبح الحكاية حياة داخل حياة، هذه الحياة التي أبدعت في وصفها فاطمة المرنيسي وهي تتحدث عن عمتها التي كانت تجمع البنات وتحكي لهن ليلا الحكايات، «كانت عمتي تتقن الحكايات ليلا، بالكلمات وحدها تجعلنا نبحر على ظهر سفينة عائمة.. أو تحملنا إلى جزيرة حيث الطيور تتكلم كالإنسان، .. كانت هذه الحكايات تزرع فيّ الرغبة لكي أكبر حتى يمكنني أنا الأخرى تنمية مواهبي كقصاصة، كنت أود أن أتقن مثلها فن الحكي ليلا».
والجملة الأخيرة في مقولة فاطمة المرنيسي تشير إلى أن «ممارسة الحكي» بالنسبة للمرأة ليس فنا اختياريا بقدر تحوله إلى جزء من شخصية المرأة ومصدر قوتها وسلطتها بفضل سحر الحكاية وملكية المرأة لقيادة السرد والتحكم فيه.
كما أن طبيعة الحياة الاجتماعية التي عاشتها المرأة جعلت الحكاية بالنسبة لها مصدرا للكثير من المقاصد منها:
وسيلة «للبقاء» وحماية وجودها من الاندثار الفكري والفراغ الكينوني ولم تكن شهرزاد هي وحدها من هدفت إلى حماية نفسها من الموت من خلال «حيلة الحكايات»، بل كل امرأة تحمل ذات هدف شهرزاد من الحكايات حماية وجودها من الموت سواء في مستواه الفعلي أو الافتراضي، فالحكايات تحقق للمرأة وجودا زاهيا خلاف الوجود الواقعي لها الباهت، و»وسيلة تسلية» تعبّر من خلالها عن رؤيتها نحو الأشياء، وهذا التعبير الحرّ يُمكّنها من خلق عالمها الافتراضي الذي تعيشه من خلال الحكاية بمعاييرها هي وقوانينها هي وفلسفتها هي، كما يمكّنها أيضاً من خلق بديلا تعويضيا مغايرا عن واقعها.
هذا التعويض الذي يحولها من الهامش - كما تعيشه في الواقع - إلى مركز القرار والقيادة كونها هي التي تتحكم في «سلطة القول والسرد» والتغير، لتصبح الحكاية بالنسبة لها هي الوجود الفعلي الذي تتحدى من خلاله الهيمنة الذكورية والوأد الفكري والثقافي.
ولا توفر الحكاية للمرأة فقط وسيلة بقاء وتسلية بل أيضاً توفر لها «لعبة الحضور والغياب» لتحقق من خلالها المقاصد التي عجزت عن تحقيقها في الحياة الواقعية أو تلك التي تتمنى تحققها، والمقصد الآخر تبلور مع تطور فكر المرأة» فحين تكون المرأة يائسة ، فإن الشيء الوحيد الذي يجب أن تقوم به هو قلب العالم وتغييره» - فاطمة المرنيسي -
ارتبطت الحكاية والمرأة «بالليل» حيث كل الأشياء تكون في حالة غياب - غياب الرجل والعرف والتقاليد والصوت الآخر وتعليمات العيب والحجز والمنع - ليظل وجودها الحاضر هو المهيمن في ذلك الغياب لتفرض أعرافها وتكسر تعليمات العيب وحدود الحجز والمنع. «لتجد الجدران وقد غدت آفاقا» - فاطمة المرنيسي -.
وكأنما المرأة «لا وجود حاضر» لها إلا في ظل «غياب الحياة»؛ لأن النهار هو القيمة الحقيقية للحياة، وفي الليل يظهر صوت المرأة المختفي في النهار وهي تحكي الحكايات في وجود جمهور صامت.
وهنا المرأة عبر الحكاية تدخل لعبة تبادل الأدوار فصوتها الغائب في النهار مقابل صوت الآخر الحاضر «الرجل» يصبح صوتا حاضرا في الليل مقابل تعمّدها تحول الصوت المقابل لها «الجمهور» إلى صوت غائب في حضور صوتها لتحقيق هيمنتها ، وهو أمر يحقق التوازن لوجودها ، ذلك التوازن هو الذي يعوضها عن غيابها المفقود في واقعها.
ولذا تصبح الحكاية بالنسبة للمرأة حياة.