محمد عبد الرزاق القشعمي
أول ما سمعت بالوراق أحمد كلاس عيسى قبل ثلاثين عاماً، كنت في زيارة للأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد (يحيى ساعاتي) فذكر ضمن حديث عابر أنه سيزور مع الأستاذ أمين سيدو أحمد كلاس اليماني بحي (غبيرة) بالرياض، فهو من هواة جمع الكتب القديمة وتبادلها أو بيعها على المهتمين.
ومنذ خمس عشرة سنة وعند البدء للتجهيز لإنشاء مكتبة الملك فهد الوطنية. وتكليف الدكتور يحيى بالتحضير لذلك، وتخصيص حديقة البلدية ومبانيها في شارع الستين، من ضمن التخطيط لإقامة البنية التحتية للمكتبة من منشآت وتشكيل إداري وتجميع لأمهات الكتب وبواكير الطباعة بالمملكة كنواة لها، كنت بين وقت وآخر أزورهم في الحديقة وأبو حيدر ورفاقه أذكر منهم الأساتذة عبدالعزيز الصقعبي وأمين سيدو وعبدالكريم العودة منهمكين في العمل واستقبال الكتب وترقيمها وتكشيفها... إلخ.
كنت أرى مجموعة من أساتذة الجامعات وغيرهم بين داخل وخارج في مكتب أبي حيدر، بعضهم يشجع والبعض يحمله التطفل وحب الاستطلاع، وعرفت منهم أحمد كلاس فهو كثير المجيء فتجده يحمل فوق رأسه كرتوناً أو أكثر وبه مجموعة من الكتب. أو المخطوطات يعرضها للبيع أو سبق أن طلبت منه، عملت بعد ذلك بالمكتبة بعد استكمال مبناها الحالي، فكنت ألتقي بالكلاس ودائماً أجده يضحك أو يروي الطرائف المضحكة من شعر وغيره.. وهو ممن استفاد منهم سائقو (الليموزين) فهو لا يتقن قيادة السيارة وليس لديه سائق وسيارة ليسهل بالتالي انتقاله بين المكتبات ومقره بحراج ابن قاسم جنوب الرياض أو منزله في غبيرة، وقلما تجده دون كرتون فوق رأسه أو متأبطاً مجموعة كتب أو مخطوطة أو (حناء) في قدميه.
عرفت أنه من أوائل من تبرع للمكتبة بأعداد من نوادر الكتب ونفائسها لا تقل عن 5000 كتاب، وكثيراً ما تجد بعض الكتب مليئة بأختام (الكلاس) التي تحمل العبارات التالية (الحاج كلاس عيسى.. اليمن عبس ثواب – وادي القنبور - لواء حجة).
فتجد أحياناً عشرات الأختام في الكتاب الواحد حتى إنني كنت أقول له هل مر الجدري من هنا؟ فيرد أنا ماغي فاضي، فأطلب من أبنائي وبناتي أن يختموا على الكتب وكل تختيم عشرين كتاب أعطيه مقابلها ريال، فأقول له المفروض الختم في بداية الكتاب ونهايته لا في وسطه وعلى صفحاته وكل ملازمه، حتى إن بعضها يعيق القارئ عن قراءته، فأراد أن يرشوني بدعوته لزيارة (مبسطه) في حراج ابن قاسم، ووصف لي مكانها.
والحراج والوصول إليه من الصعوبة لمن لم يتقن التردد عليه. وصعب علي الوصول إلى الحراج فأوقفت سيارتي في شارع بعيد واتجهت إلى حيث وصف لي المكان وبصعوبة كبيرة وصلت بعد عصر يوم خميس إلى المكان وحواليه مجموعة مباسط أو مناشر تحتوي على بعض الكتب المدرسية وغيرها من الكتب البالية المستعملة بلا رحمة، سألت عن الحاج كلاس فأشاروا إلى شيء مكفن. فراش بوسطه شيء ملفوف ومربط بالحبال من جميع الجوانب، انتظرت إلى قرب الغروب ولم يأت فانصرفت بصعوبة من الزحام والضوضاء. ولم أعد إليه مرة أخرى.. ولكنه استمر بتكرار زيارة المكتبة وكانت تستعد لإقامة حفل الافتتاح، وسيدعى لهذه المناسبة أبرز رجالات المجتمع والمعنيين بالثقافة والوراقة وفي مقدمتهم راعي الحفل سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز المشرف العام عليها وسيكرم الداعمين للمشروع والكلاس أحدهم وكان ينوي السفر لبلدته باليمن فطلب منه أمين المكتبة الأستاذ علي الصوينع أن يؤجل سفره إلى ما بعد الحفل فانصاع لذلك على مضض.
أقيم الحفل وانتهى ولم يحضر الكلاس، وبعد شهر أو يزيد جاء على استحياء وعندما سئل عن عدم حضوره قال: (الله يهب لكم فشله) حضرت ونزلت من (الليموزين) وأنا فرح بهذه المناسبة -افتتاح المكتبة- ومشتاق لرؤية راعي الحفل والذي سيسلمني شهادة تقدير بصفتي أحد الداعمين لها، ولكن وبمجرد أن رآني العسكر المحيطون بالمكتبة وطردوني.. ورفضوا السماح لي بالدخول (غرهم شكلي) هم يريدون أصحاب سيارات فخمة ومشالح، وأنا مسكين انتعل حذاء صندل بلاستيك -شبشب- وشعري أشعث أغبر وثوبي لو يعضه الكلب انغلث، حاولت أن أناديكم من الشارع وأنا أراكم تستقبلون الضيوف ولكنهم أبوا أن يسمحوا لي، فعدت مشياً على الأقدام لـ(غبيرة) حتى يمتد بي الوقت ولا يحسوا أهلي أنني عدت (بخفي حنين) مطروداً، وكلي حسرة وألم.. فسلم له شهادة التقدير التي كان من المفروض أن تسلم له في الحفل.
أذكر أن أحد الأصدقاء زارني في المكتبة وعندما رأى (أحمد كلاس) بشعره الأشعث وغترته التي يضعها كيفما اتفق على رأسه وثوبه القديم المكرمش وهو يحمل فوق رأسه مجموعة من الكتب القديمة قال هذا أحد مخطوطاتكم القديمة تحاول الخروج من معتقلها.
ومع ذلك فأبو محمد دائم الابتسام كثير التفاؤل يحب الكتاب ويقدره ويعرف قيمته ولهذا فقد قال عنه أحد منافسيه إن كلاس يعرف شياب الرياض ويعرف من منهم لديه مكتبة خاصة أو بعض الكتب النادرة فتجده يصلي معه وإذا افتقده يسأل عنه، وينتظر أن تزل به القدم حتي يحمل حتى يحمل أبناؤه ما تركه من مستلزمات وأشياء خاصة لبيعها وكثيراً ما تباع بالحراج.. فهو لا يترك أحداً يشتريها غيره بل يزاود بها حتى تكون نصيبه فيعزل الكتب وينقلها إلى بيته حتى يشمها بوشمه (ختمه) ويعرف قيمتها الحقيقية فيذهب لعرضها على أصحاب المكتبات العامة أو المهتمين بأغلى الأثمان.
وأبو محمد على نشاطه المتواصل لا يكل ولا يمل كالنملة عندما تجمع مؤنة الشتاء حتى أن بعض الزملاء إذا افتقدوا رؤيته في إحدى الأيام سألوا عنه وكأنه أحد زوايا المكتبة المهمة، لاعتيادهم على رؤيته فهو محبوب من الجميع فكثيراً ما يمازحهم ويحضر معه بعض الكتب التي تناسب رغباتهم كل حسب سنه وميوله ورغبته فإذا بقي الكتاب بين يديه ولم يجد له مشترياً فهو لا يتورع عن تقديمه هدية لأحدهم.. عرفت أنه أقام معرضاً دائماً للكتاب في بلدته (وادي قنبور) باليمن التي يزورها سنوياً.
وقبل نحو خمسة عشر عاماً توفيت زوجته (أم محمد) فتزوج بأخرى من بلدته، وأحضرها للرياض، وما زال متواصلاً مع المكتبة ومع الدكتور يحيى ابن جنيد وغيرهم كما هي عادته.. إلا أنه في السنوات الأخيرة بدأ يفقد ذاكرته.. وأصبح يحمل في جيبه ورقة كتب بها عنوان منزله في غبيرة خوفاً على نفسه من الضياع.
وأخيراً أدركته الوفاة في منزله مطلع شهر رجب 1439هـ دون أن يعلم به أكثر محبيه ولعل أحدهم الدكتور أمين سيدو تلميذ الدكتور يحيى ابن جنيد وأحد مؤسسي مكتبة الملك فهد الوطنية والدكتور محمد المشوح قد كتبا عنه وعن مآثره وحبه للكتاب ودعمه للمؤسسات المعنية به.. مما حملني على كتابة ما أتذكره عنه -رحمه الله-.