د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
الشباب وما أدراك ما الشباب! هم عماد هذا الوطن ومستقبله، وهم من سيحمل اللواء من بعدنا في الدفاع عنه وحمايته، وهم العدة التي نعتمد عليها بعد الله في تطور الفكر وبناء الحضارة، شئنا أو أبينا، لذا كنت أؤكد دائمًا على ضرورة الحفاظ على هذه الثروة التي لا تُقدَّر بثمن، ووجوب العناية بها، وتسخير كافة الإمكانات لتثقيفها وتطويرها؛ حتى يكونوا في أهبة الاستعداد لخدمة هذا الوطن في كل وقت وحين.
والناظر في حال شبابنا اليوم يجد أنَّ بعضهم قد بلغ منزلةً عاليةً من الإبداع والتميز في مجاله، جدَّ واجتهد وعمل وثابر وسهر الليالي حتى تمكن من صقل موهبته وإتقان عمله، معتمدًا بعد الله على نفسه، لا يتوقف طموحه عند حد، فأضحى جديرًا بأن يكون له مكانٌ في الساحة، التي تحتاج إلى أمثاله من أصحاب المواهب المبدعين والمتحمسين لتقديم الجديد والمفيد.
وفي وطننا الحبيب كثيرٌ من أولئك الشباب الذين برزوا في الآونة الأخيرة، ويتابعهم المتلقي بشغفٍ وإعجاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إِذ أبدعوا في مختلف المجالات الثقافية، وقدَّموا أنفسهم بصورةٍ جميلةٍ ليكونوا نماذج مُشرِّفة لهذا الوطن المعطاء، حتى استطاعوا تغيير الصورة النمطية عن الشاب السعودي، تلك الصورة التي ترسَّخت في أذهان البعض، على أنه اتكالي لا يمكن الاعتماد عليه، وأنه فقير الموهبة قليل الإبداع!
غير أنَّ المتأمل في مشهدنا الثقافي لا يجد لهؤلاء الشباب حضورًا بالمستوى المأمول، بالنظر إلى أعدادهم وحجم إبداعهم، بل يجد أسماءً ما زالت تتكرَّر على مرآه ومسمعه منذ عشرات السنين، أسماء احتكرت مشهدنا الثقافي، فتآلفت معه وتآلف معها، وأصبحت صورهم لا تفارق الأذهان، أما فكرهم العتيق وأداؤهم القديم فقد أكل الزمن عليه وشرب، ولم يعد يتناسب مع التطورات الجديدة، ولا يتناغم مع الحياة العصرية، رغم ما يبذلونه من جهود في سبيل ذلك، لكن العمر والروح وطريقة التفكير والنظر إلى المجتمع وقضاياه، كل هذه الأمور تحول دون ذلك.
إنني أتفهم حاجة المؤسسات الثقافية إلى أصحاب الخبرة، وأدرك تمامًا ضرورة وجود أمثالهم للإفادة منهم في الاستشارة ومعالجة بعض القضايا، لكن أن يستولي هؤلاء على المشهد الثقافي، وأن يحتكروه وكأنه إرثٌ لهم، وأن يتجاهلوا الشباب الموهوب المتطلع لإبراز ما عنده من جديد، فهم بذلك يرتكبون جريمةً بشعةً في حقِّ ثقافة الوطن، إِذ يسهمون في إيقاف عجلة التطور، ويعطلون المواهب الشابة، ويجسدون الأنانية في أقبح صورها.
إنَّ هذا الاحتكار الثقافي الذي يمارسه (شيبان) الثقافة في الوطن، لا يؤدي إلى تعطيل مواهب الشباب فحسب، ولا إلى إيقاف عجلة التطور فقط، ولا إلى ملل المتلقي الواعي من تكرر الأسماء والوجوه والأفكار، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، يسهم أيضًا في تشكيل صورةٍ نمطيةٍ للثقافة في بلادنا، يظنها كثيرٌ من الناس أنها هي النموذج الثقافي في أجود صوره، فتتحوَّل هذه الأسماء إلى مجموعةٍ من الأصنام الثقافية، لا يجد المتابع المسكين غيرها، فيعمد دون وعي إلى تقديسها، والنظر إليها نظرة فيها كثير من التعظيم والإجلال؛ لأنَّ الإعلام الثقافي -المحتكر أيضًا من قِبل هؤلاء- لا يبرز غيرها، ولا يطبِّل لسواها.
وهنا يحضرني ما سبق أن قلته في مقال سابق، حيت أكدتُ أنَّ مبالغة المجتمع في تقديس زمرةٍ من المثقفين جعلهم يتصدَّرون المشهد دون سواهم، حتى صارت المناسبات الثقافية حكرًا عليهم، فلا تكاد تسمع بغيرهم، وكأنهم وصلوا إلى مستوى من الثقافة والتفكير لا يمكن لغيرهم أن يصل إليه، حتى ملَّ المثقف الواعي من تكرر أسمائهم، ومشاهدة إعلانات ثقافية لا تحمل سوى صورهم، والمصيبة الكبرى أنَّ كثيرًا من هؤلاء لا جديد لديه، بل بات يكرِّر في كلِّ مناسبةٍ ما كان يقوله منذ عشرات السنوات؛ لأنه أفلس فلم يعد يملك رصيدًا من جديد الثقافة، فصار يعتمد على اسمه اللامع في خداع المجتمع، ولا تتفاجأ حين يقوم بعضهم بإعادة إصدارٍ كتابٍ قديمٍ له، فيغير عنوانه وأسلوبه في تقديم فكرته، ويقدِّمه بوصفه كتابًا جديدًا، ليثبت أنه ما زال قادرًا على العطاء!
إنَّ على المؤسسات الثقافية أن تعيد النظر في تمكين الشباب من العمل الثقافي، وأن تزيد من تشجيعهم وتحفيزهم، وأن تثق بهم وبموهبتهم وبجهودهم، وألا يكون هذا التمكين وتلك الثقة وذلك التشجيع مجرد شعارات ومثاليات ونظريات لا أساس لها على أرض الواقع، بل ينبغي أن تتجاوز ذلك لتمنحهم مساحات كبرى في المشهد الثقافي السعودي.
نريد أن نخرج من أسر أولئك المثقفين القدامى وسجنهم إلى فضاء إبداع الشباب ومواهبهم المحلِّقة، نريد أن نرى شبابنا الموهوب يتسنَّم مناصب ثقافية رفيعة هو جدير بها، نريد أن نرى حضورهم بقوة واستمرار في الأمسيات والندوات، نريد أن نرى دور النشر تتسابق عل ى نشر إنتاجهم الجيد الرصين، نريد أن نرى إعلامنا يحتفي بهم ويشجعهم، نريد أن نرى المؤسسات الثقافية ترشحهم لنيل الجوائز التي يستحقونها، وبغير ذلك لا ننتظر تطورًا ثقافية ولا نهضةً فكرية لهذا الوطن المعطاء، الذي ليس له إلا الله، ثم جهود أولئك الشباب المخلصين.