هل عرضت عليك صورة جمالية مبدعة أخذت بلُبِّكَ لدقائق، وظللت لها مشدوداً مأسوراً، اتسعت معها حدقتا عينيك، وفغرت فاك، وتسمّرت أطرافك؟
إنه الانبهار بعينه. إنه يملك قدرة نفسية هائلة على أسرك طواعية دون أدنى مقاومة.
إنه يشغل تفكيرك، ويسيطر على جوارحك، ويأخذ بمجامع إرادتك. إنه يغطي عقلك بذهول ويفقدك -للدقائق الأولى على الأقل- القدرة على تفعيل بعض مهاراتك الذهنية بل قد يضعف لديك وظائف جسدك الحيوية أيضاً.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (31) سورة يوسف.
وإن كان الطفل الصغير قد أحرز تفوقاً على الكبير في قدراته الفطرية على إضافة إثارة ونشوة وانسيابية للحياة، فذلك يعود لتفعيله اللافت لقيمة الدهشة! في ردة فعله المبهرة تجاه كل عنصر أو مفردة من مكونات الكون والطبيعة.
في حين يضعف تأثير حقل الدهشة طردياً – بعد استبعاد عامل الزمن مؤخراً- لا سيما مع الانفتاح العولمي المرافق لاكتساح هائل للصورة، فيبدأ الإنسان بتجربة التكيف وممارسة سلوك اللا مبالاة تجاه الأحداث والأفكار والتجارب.
وقد يزيد ضوء الانبهار أو ينقص بحسب معايير كثيرة، تتعلق بأداة التأثير من حيث كونها حقيقية أو زائفة، وحال المتأثر به الذهنية والنفسية من حيث الاستعداد ودرجة الاتزان وكذلك البيئة المحيطة، من حيث الوفرة والتجديد. كما أن الانبهار قد يتم تجاه صورة حسية، ومدخلها الحواس أو لمعاني قيمية روحية ومآلها النفس.
أشخاص ورموز، وأفكار، ومشروعات، بهرتنا وشلت حواسنا وأحكمت قبضتها الناعمة علينا، لنكتشف بعدها أننا كنا نتتبع ظل زائل.
وربما وظّفها بعضهم في الاحتيال لتمرير خططه، والتخدير لإحكام سلطته، أو التسويق لسلعة، أو الاعلان لشخصه...
ويبقى عنصر الإثارة، والبَهْر، أحد أكثر وسائل التضليل الإعلامي تأثيراً، وتعبئة لدى المتلقي؛ فصورة بتقنية تصوير عالية، كافية لبعث إيحاءات مقصودة، قد تقف الكلمات اللفظية دونها عاجزة، فالصورة الآخذة بالألباب، سواء أكانت للقامات الرياضية الضخمة، أم للتطور التقني الهائل، أو للمقاييس العالمية للجمال، هذا كله قد يُستغل في هزيمة الخصم نفسياً يرافقه شعور بالعجز وانعدام الخيارات إلا التبعية.
لكن تبقى هندسة العقل؛ بتدريبه على التقويم المنهجي الدقيق، ووفقاً لمهارات التفكير العلمي والناقد، وتفعيل الملاحظة العلمية الهادفة، التي لا تتم إلا بعد طول معالجة وتكرار، وحيادية تقويم، واستقراء أوضاع ؛ فهذا من شأنه أن يضعف التفكير الانفعالي، ويهذب السلوك الاندفاعي،.
إلى جانب ذلك فلا بد من إعادة ضخ الحياة في «دهشة طفل» بالانتباه الواعي للنعم التي تغمرنا، بدوام الالتفات نحو جماليات الحياة الصغيرة كجناح فراشة مزخرف بعناية، وزهرة برية أخرجت تاجها الملون من بين الشقوق الصخرية، بقراءة الرسائل اليومية المتكررة، بالانصات للتوجيه الرباني {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (4) سورة الملك فهذا من شأنه تشتت فلاشات الانبهار قبل أن تُعشى الأبصار.