د.ثريا العريض
عبر الأزمنة لم يتوقف اختلاف الآراء والمواقف الفكرية حول تفضيلات الأفراد لمتقبلات المجتمع ومرفوضاته, وتناقض معادلات التعامل بشرياً وقانونياً في كل المجتمعات. حالياً نعايش تصاعد سقف النقاش وتوسعت مجالاته محلياً بعد تخفيف وطأة موقف الغلو التي كممت الكثير من الآراء تحت مبررات الالتزام شرعياً وفرضت من الآراء ما شاءت دون التأكد من تطابقها مع الشرع أو القانون.
فيما يتعلق بالجدل القائم محلياً حول إعادة التوازن للمجتمع, أتحسس من تصنيف «نشطاء» وأرفض أن أتحاور مع أو أصنف من أي جهة داخلية أو خارجية بصفة «ناشطة». أفضل البحث عن حلول لمعالجة أي مشكلة اجتماعية بتوجه مستقبلي عبر دراسة المدخلات والسعي لإعادة التوازن وإزالة أي نواحٍ سلبية وغير مرضية. وأومن أن التحول لا يتم بنجاح مجتمعياً أو سياسياً إلا إذا ترسخ بدعم كل الجهات الفاعلة والمؤثرة من مكونات المجتمع, منتهياً بالقرار الأعلى الذي يوضح ويقنن المقبول والمرفوض في تعاملات الأفراد.
يسعدني أن أعايش الآن انتعاش حيوية التوجه الإيجابي المقنن للتفاعلات, مفعلة بمبادرات الجهات الرسمية وموجهة ومحفزة بتعليمات استراتيجية التحول ورؤية 2030, خاصة المستجدات المتعلقة بتعامل المؤسسات دون تفرقة فئوية.
مع هذا, رغم الجهود الواضحة لتمكين المرأة, كثير من الإناث ما زلن يعانين التأزم في معادلة المجتمع الخاص. أتابع الوضع منذ ولجتُ باب البحث في هذه القضية مهتمة بتغيير الحال: بدأت بمحاضرة عامة عام 80م «دور المرأة السعودية في التنمية» بدعوة من القسم النسائي بجامعة الملك فيصل بالدمام, ثم جامعة الملك سعود بالرياض.. ونشرتها وقتها جريدة الجزيرة مشكورة على صفحة كاملة ليتلقفها كل باحث مهتم بمشاركة المرأة؛ ثم «العنف الأسري وإساءة معاملة الأطفال», بصورة عدة مقابلات تلفزيونية ضمن برنامج المرأة الصباحي بالقناة الأولى مع مذيعة شابة أخذت زمام المبادرة في طرح موضوع هذه الممارسة المتقبلة وغير المعترف بها كخطأ مجتمعي يدعمه العرف. كان الكلام في هذين الموضوعين بالذات ذلك الفضاء الملغم, ضمن المسموح به رسمياً والمرفوض اجتماعياً الاعتراف بأهميته ومصيرية البت فيه.
هل تغير الوضع منذ ذلك الحين؟ نعم ولا. تغير من حيث وعي المسؤولين والنخبة من أفراد المجتمع بمصيرية رفض وتغيير ما هو متقبل مجتمعياً وضار فردياً؛ مثل ضرب الصغار واستغلال النساء, وبالمثل مصيرية فرض ما هو مطلوب شرعاً وما زال يرفض عرفياً تحت تفسيرات مغالطة أو مغلوطة, مثل التسامح في إضرار المنجب بمن أنجب, واستغلال القوامة والولاية لعضل البنات, والفصل بين زوجين بحجة عدم تكافؤ النسب. ومن المؤسف أن سلطة العرف بتكرار ملزم ظلت أقوى من الفرد. ولذلك استمرت أيضاً المطالبة بإعادة النظر في أوضاع المرأة والشباب والممارسات السلبية تحت مظلة القوامة والولاية؛ أوضاع ضاغطة وخانقة يعاني منها ملايين الشباب والإناث من كل الأعمار.
تغيير الممارسات لا يتم إلا بقانون رسمي بشأنها وتوضيح إجراءات معاقبة من لا ينفذ القانون الرسمي, وتطبيق الإجراءات على كل مخالف بلا استثناء.
كمواطنة وكمتخصصة وكمسؤولة, أتعاطف جداً مع مطالب النظر في إساءة استغلال العلاقات الأسرية سواء نظرت اليها في إطار إنساني أو حقوقي أو اجتماعي أو اقتصادي. هي باختصار ليست مطالباً متضادة مع «الشرع» كما يحاول البعض أن يصورها , ولا هي مؤامرة تغريبية. الواقع الواضح أن التطور المتسارع الذي نعايشه الآن يتطلب وقفة منطقية جادة مع معتادات المجتمع في التعامل مع الإناث والقصر لكي نتخطى التضارب والتناقض والمعاناة.
حين نتكلم عن ولاية الأمر والقوامة يحدث لبس في المنطلقات والتعريفات. يطالب البعض أن نضعها في إطار العلاقات المجتمعية القابلة للتطويع حسب ما تتطلب ظروف الأوضاع الخاصة بالمرأة المعنية في الأسرة المعنية في الزمن الراهن, يراها البعض الآخر في إطار ثابت يوصلونه إلى التحجر القاتل ويعيدها البعض إلى أصول مدعاة تمنحها صفة الثوابت. ولا يرون أنهم يسلبون من تعاليم ديننا السمح أهم صفاته وهي المرونة والصلاحية لكل زمان.
وسأعود لاستكمال الحوار في حوارنا القادم.